ألف الجاحظ كتاب "البغال" ليضمه إلى كتاب الحيوان، بحيث يكون قسماً منه متمماً لسائر أقسامه. وقد أفصح عن نيته تلك بقوله: "كان وجه التدبير في جملة القول في البغال أن يكون مضموناً إلى جملة القول في الحافر كله، فيصير الجميع مصحفاً تاماً، كسائر مصاحف كتاب الحيوان".يبدو أن عقبات عدة حالت دون تحقيق نيته ذكرها في مطلع كتاب "البغال" منها ا...
قراءة الكل
ألف الجاحظ كتاب "البغال" ليضمه إلى كتاب الحيوان، بحيث يكون قسماً منه متمماً لسائر أقسامه. وقد أفصح عن نيته تلك بقوله: "كان وجه التدبير في جملة القول في البغال أن يكون مضموناً إلى جملة القول في الحافر كله، فيصير الجميع مصحفاً تاماً، كسائر مصاحف كتاب الحيوان".يبدو أن عقبات عدة حالت دون تحقيق نيته ذكرها في مطلع كتاب "البغال" منها الهم الشاغل، ومنها المرض الذي عانى منه في شيخوخته. ويبدو أنه نشر كتاب الحيوان قبل تأليف "البغال" فحاول أن يستدرك النقص الذي يعتوره، وأعتذر بالمرض والشواغل الكثيرة.ومما لا شك فيه أن كتاب "البغال" كسائر أجزاء "الحيوان" يعكس لنا ثقافة الجاحظ الموسوعية ومناحيه الفكرية المتنوعة. فهو يجمع بين العلم والأدب وبين الجد واللهو، وبين الفلسفة والدين، وبين اللغة والكلام، وقد أشار إلى هذه الخاصة بقوله في مقدمة كتاب الحيوان "وهذا كتاب تستوي فيه رغبة الأمم، وتتشابه فيه العرب والعجم، لأنه وإن كان عربياً إعرابياً، وإسلامياً جماعياً، فقد أخذ من طرف الفلسفة وجمع معرفة السماع وعلم التجربة، وأشرك بين علم الكتاب والسنة، وبين وجدان الحاسة وإحساس الغريزة، ويشتهيه الفتيان كما يشتهيه الشيوخ، ويشتهيه الفاتك كما يشتهيه الناسك، ويشتهيه اللاعب ذو اللهو كما يشتهيه المجد ذو الحزم، ويشتهيه الغفل كما يشتهيه الأريب، ويشتهيه الغبي كما يشتهيه الفطن".تتمثل الناحية العلمية في الكتاب بالوصف المسهب لطباع البغل ومنافعه. والمنحى النقدي عند الجاحظ يتمثل في نزعته إلى الشك بحيث لا يسلك بأي أمر أو خبر إلا بعد أن يمحصه ويختبر مدى صحته، وهو القائل: أجعل الشك طريقاً إلى اليقين، وهو الذي عرف بميله إلى التهكم والسخرية حتى أنه كان يسخر من نفسه ومن قبح منظره.وفي الكتاب ناحية ثالثة هي الناحية الأدبية. وتتمثل هذه الناحية بالخبر ورواية الشعر والفكاهة والطبع والأسلوب المميز ويسوق الجاحظ في "كتاب البغال" مجموعة ضخمة من أخبار البغل تبين منافعه وخصائصه المميزة عن سائر الحيوانات. والخبر ضرب من القصة القصيرة، ينطوي على ما تنطوي عليه القصة من تسلسل أحداث، ومكان وزمان معنيين، وإبطال يضطربون في تلك الأحداث، وفكرة يبغي المخبر الإفصاح التي يريد الجاحظ إيضاحها طباع البغل وظاهرة الخلق المركب، والبيئة التي تجري فيها الأحداث هي عصر الجاحظ والعصور الإسلامية السابقة.وثمة خاصة أخيرة في كتاب "البغال" تسيء إلى قيمته العليمة هي فوضى التأليف. هذا العيب يسم سائر كتاب "الحيوان"، كما يسم كتاب "البيان والتبين"، وهما أكبر كتب الجاحظ. وأبرز صوره الاستطراد أو الخروج عن الموضوع والعودة إلى بحث المسألة الواحدة في أكثر من مكان في الكتاب. فهو مثلاً يبدأ كتاب "البغال" بالكلام على ولع الأشراف بالبغال فيذكر من هؤلاء الأشراف الذين اقتنوا البغال وآثروها ومدحوها روح بن عبد الملك بن مروان، ومسلمة بن عبد الملك بن مروان، وعبد الرحمن بن عباس بن ربيعة بن الحارث بن المطلب الملقب برواض البغال لشغفه بها وحذقه بركوبها، والنبي صلى الله عليه وسلم، وعلي ابن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وعائشة، وقطري بن الفجاءة، وخالد ابن عبد الله القسري، وإسماعيل بن الأشعت الخ. وعندما يصل إلى عائشة والبغلة التي تمتطيها وهي ذاهبة لإصلاح حيين من قرش يستطرد إلى موضوع لا علاقة له بالبغال هو رواية الأخبار وما يعتورها من صنع وتوليد وذكر الرواة الكذابين والرواة الصادقين، ثم يعود إلى متابعة الأشراف الذين عنوا بالبغال واقتنوها.والباب الثاني يخصصه لنوادر البغال فيورد أكثر من عشرين نادرة مضحكة تدور حول البغال أو تمت إليها بصلة كما يروي مقطعات شعرية لأبي نواس والحكم بن عبادة وحنظلة بن عبادة وأبي العتاهة ومسلم بن الوليد وغيرهم يغلب عليها روح الفكاهة والمرح.ويدور الباب الثالث حول طباع البغال وأهمها الفتك بأصحابها وتلونها وحرنها، وفضح البغلة لمن يكومها. ويتناول الباب الرابع استعمال البغال في البريد وأهمية انتظام البريد في أمن الدولة، ويستطرد من ذلك إلى تفسير منام البغال كما يستطرد إلى مسألة لغوية حول اشتقاقات اسم البغل ثم يعود إلى الحديث عن بريد البغال.أما الباب الخامس فيتحدث عن مسألة هامة هي الخلق المركب التي يشكل البغل حالة من حالاته، ويذكر حالات أخرى مثل الحمام الراعبي والسمع والكوسج واللخم والدجاج والخلاسي والكلب الخلاسي. ويستطرد إلى بغلة عكرمة بن ربعي التي مر ذكرها سابقاً وإلى أشعار مختلفة تتعلق بالبغل وصفاته. وفي باب سادس يبحث في أعمار البغل والحيوانات.وينتقل في باب السابع إلى علاقة القضاء بركوب البغل. ويعقد باباً للكلام على أثر البيئة في الحيوان، ويليه باب في الكلام على سفاد البغل وسائر الحيوانات. وفي باب عاشر طويل يجمع الجاحظ متفرقات تتناول ذم البغال ومدحها تتخللها أخبار وأحاديث وأشعار كثيرة. وفي باب أخير يعود إلى الكلام على الخلق المركب ويبدي رأيه فيه.لقد برر الجاحظ فوضى التآليف تلك بطول الكتاب وقلة الأعوان والمرض والهم وتشتت الفكر كما برره برغبته في طرد السأم عن القارئ وذلك بعدم الإطالة في الكلام على الموضوع الواحد، وبالانتقال من موضوع إلى آخر، لأن الإطالة برأيه تبعث الملل في النفس، والتنويع والاستطراد يبعثان فيه النشاط ويثيران الاهتمام.