أنجبت إفريقية الإسلامية اجتماعياً من الطبقة الأولى في شخص ابن خلدون الذي لم يعرف من قبله عالم أوتي تصوراً عن فلسفة التاريخ أصح ولا أجلى من تصوره، فإن أحوال الأمم الروحية، والأسباب الطارئة عليها، القاضية بتغييرها، وكيفية تأسيس الدول، وما تدخل فيه من الأطوار وتنوع المدنيات وعوامل نموها أو تقلصها، كل ذلك كان من المباحث التي خاض فيه...
قراءة الكل
أنجبت إفريقية الإسلامية اجتماعياً من الطبقة الأولى في شخص ابن خلدون الذي لم يعرف من قبله عالم أوتي تصوراً عن فلسفة التاريخ أصح ولا أجلى من تصوره، فإن أحوال الأمم الروحية، والأسباب الطارئة عليها، القاضية بتغييرها، وكيفية تأسيس الدول، وما تدخل فيه من الأطوار وتنوع المدنيات وعوامل نموها أو تقلصها، كل ذلك كان من المباحث التي خاض فيها إلى أقصى ما يمكن الخوض فيه، وذلك في مقدمته المشهورة، ولم نجد في أوروبة، إلا في القرن الثامن عشر، أناساً حاولوا أن يستخرجوا أسرار التاريخ استخراجه بعد أن كانت أقفالاً مستحجبة تعذر فتحها، فكان ابن خلدون في العقل والإدراك من صنف مونتسكيو أو الأب ما بلي، وهو دون شك الجد الأعلى لعلمائنا الاجتماعيين المحدثين مثل "تارد" والمستشرق غوبيتو Gobineau.كان قد انقضى على وفاة المؤرخ الطبري ما يقرب من أربعة قرون وربع قرن عندنا ولد ابن خلدون وهي حقبة شهدت أحداثاً ضخمة عظيمة الشأن، كانت في جملتها نقاط تحول خطيرة في تاريخ العالم بوجه عام، ففي خلال هذه الفترة ازدادت عوامل الضعف والانحلال التي تكشفت إلى حد ما في عصر الطبري، فتدهورت سلطة خليفة بغداد، أو تدهورت سلطة الحكومة المركزية، حتى أصبحت مجرد اسم أو رمز لماض تليد، واستقلت أجزاء الدولة، واحداً تلو الآخر، وهذه نتيجة حتمية تترتب على ضعف السلطة المركزية، وإذا كان حكام بعض هذه الأجزاء، ومن أجل إضفاء طابع الشرعية على حكمهم، واصلوا الاعتراف بما للخليفة من سلطان روحي، فإن غيرهم نبذوا هذا السلطان بل وأنكروه كلية، كما فعل الفاطميون.في هذه الأجزاء المستقلة، وشبه المستقلة، تعاقبت الأسر الحاكمة، فشهدت مصر مثلاً حكم الفاطميين والأيوبيين ثم المماليك، وفي سورية نشأت دويلات وإمارات كثيرة حتى سادت الفوضى البلاد وعمتها، وفي المغرب تعددت أسر الحاكمة، وكانت بينها منافسات وصراعات وحروب لم تنقطع.في ظل هذه الحقبة نشأ ابن خلدون، وعلى ضوئها، هي والأحداث التي عاصرها واشترك في بعضها كتب تاريخية الكبير، أو مقدمته الشهيرة، التي تعتبر محاولة منه فلإجابة على تساؤلات لا بد أنها كانت تلح على ذهن متفهم وواع مثل ذهنه ووعيه، مثل: كيف وقعت تلك الأحداث المتلاحقة؟ لماذا حدث ذلك الانهيار الذي أصاب العالم الإسلامي برمته؟ كيف نشأت تلك الدول العديدة، ولماذا انتهى بها الأمر إلى السقوط والتداعي؟ وهل كان كل هذا مجرد مصادفة، أو كان لسبب طارئ، أو هو وليد قوى شديدة لا قبل للإنسان بها؟هل هناك قوانين تحكم تحركات المجتمع الإنساني، من نشوء فازدهار ثم تدهور وسقوط، إذ لا يمكن تفسير هذه الحركات المتماثلة رغم اختلافها من حيث الزمان والمكان بأن نعيدها إلى المصادفة أو السبب الطارئ؟ وما هي القوانين التي نستطيع، من طريقها، أو نكتب التاريخ وأن نفسره؟ عن هذه الأسئلة أجابت ابن خلدون في كتبه، والدكتورة "رحال عكاوي" تحاول في هذه الدراسة من سلسلة "أعلام الفكر العربي" أن تقرأ وتحلل ما دونه ابن خلدون في مؤلفاته وذلك بعد أن تكشف عن سيرته الذاتية وتأثره بظروف عصره.