وضعت اللغة ليعبر بها الإنسان عما يبدو له من المآرب، ويتردد في نفسه من المعاني، ومن البين جلياً أن المعاني تبلغ في الكثرة أن تضيق عليها دائرة الحصر، وتنتهي دونها أرقام الحاسبين، فلم يكن من حكمة الواضع سوى أن وضع لجانب كبير من المعاني ألفاظاً عينها كالسماء والمطر والنبات والعلم والعقل، وتوسل للدلالة على بقيتها بمقاييس قدَّرها، وال...
قراءة الكل
وضعت اللغة ليعبر بها الإنسان عما يبدو له من المآرب، ويتردد في نفسه من المعاني، ومن البين جلياً أن المعاني تبلغ في الكثرة أن تضيق عليها دائرة الحصر، وتنتهي دونها أرقام الحاسبين، فلم يكن من حكمة الواضع سوى أن وضع لجانب كبير من المعاني ألفاظاً عينها كالسماء والمطر والنبات والعلم والعقل، وتوسل للدلالة على بقيتها بمقاييس قدَّرها، والكلم التي تصاغ على مثال هذه المقاييس معدودةٌ في جملة ما هو عربي فصيح.ولولا هذه المقاييس لضافت اللغة على الناطق بها، فيقع في نقيصة العى والفهاهة، ويُكثر من الإشارات التي تخرج به عن حسن السمت والرزانة، ويرتكب التشابيه محاولاً بها إفادة أصل المعنى لا كما يستعملها اليوم حليةً للمنطق، ومظهراً من مظاهر البلاغة.ولو صح أن يضع الواضع لكل معنى لفظاً يختص به، لكان الحرج الذي تقع فيه اللغة أن تضيق المجلدات الضخمة عن تدوينها، ويتعذر على البشر حفظ ما يكفي للمحاورات على إختلاف فنونها، وتباين وجوهها.فالقياس طريق يسهل به القيام على اللغة، ووسيلة تمكن الإنسان من النطق بالآف من الكلم والجمل دون أن تقرع سمعه من قبل، أو يحتاج في الوثوق من صحة عربيتها إلى مطالعة كتب اللغة أو الدواوين الجامعة لمنثور العرب ومنظومها.هذا وجه الحاجة إلى القياس في صيغ الكلم وإشتقاقها ولا يخفى عليك بعد هذا وجه الحاجة إلى فتح باب القياس في نظُم الكلام، وما يعرض من للكلم نحو التقديم والتأخير، والإتصال والإنفصال، والإعراب والبناء، والحذف والذكر، فإن تباين الأغراض، وتشعب العلوم، وتفاوت عقول المخاطبين، وإختلاف أذواقهم، مما يستدعى إطلاق العنان للمتكلمين يذهبون في البيان كل مذهب قيّم، ويتعلقون منه بكل أسلوب مقبول، حتى يظهر فيهم الخطيب المصقع، والشاعر المفلق، والكاتب المبدع، والمناظر المفحم، والمحاضر الغوّاص على الدرر، والعلامة المُجلى للمعاني الغامضة في أجمل الصور.