المعرفة أينما تكون هي أسمى غايات الإنسان بوصفه أرقى الكائنات العاقلة، فمنذ فجر تاريخ البشرية والإنسان القوي الضعيف دائب على تأمل كل ما تدركه حواسه من موجودات وبخاصة الكائنات الحية التي كانت دراستها في مقدمة اهتماماته المعرفية، وفي كل فترة من الزمن كانت هناك عقول مشرقة، يحركها حب الاستطلاع، وتشغفها المغامرة الرائعة المنطوية في كل...
قراءة الكل
المعرفة أينما تكون هي أسمى غايات الإنسان بوصفه أرقى الكائنات العاقلة، فمنذ فجر تاريخ البشرية والإنسان القوي الضعيف دائب على تأمل كل ما تدركه حواسه من موجودات وبخاصة الكائنات الحية التي كانت دراستها في مقدمة اهتماماته المعرفية، وفي كل فترة من الزمن كانت هناك عقول مشرقة، يحركها حب الاستطلاع، وتشغفها المغامرة الرائعة المنطوية في كل بحث علمي مجرد أراد أن يضيف إلى المعرفة المتراكمة عبر الزمن شيئاً جديداً، والإنسان على الرغم من جهوده الكبرى في مجالات علم الحياة لا يزال يجهل ماهية الحياة، بل إنه لا يزال يجهل ماهية عقله، وما زالت تخفى عليه ماهية تلك القوة الخفية التي تسمى الروح والتي إذا ما سرت في ذرات عناصر المادة الجامدة نقلتها إلى عالم الأحياء حيث يتشكل على وكس تلك الذرات واجتماعها بشكل معقد ومحير، ما يسمى (( الخلية ))، وحدة البناء والأداء في الكائنات الحية كلها، ولعل غموض هذا السر هو واحد من الدوافع التي دفعتنا تأليف هذا الكتاب وفيه أشرنا إلى الخلية، وماهية الحياة، ولعل الوضوح الذي تجلى بظاهرة الانفجار المعرفي التي ازدادت وضوحاً في مجال البيولوجيا الجزيئية بل إن البرنامج الجيني هو الذي يقوم بالدور الحاسم في كل جانب من حياة أي كائن، تركيبه، تطوره، ووظائفه، وأنشطته، ثم تحول تركيز البحث الجيني إلى فرع دقيق هو علم الجينات التكويني، Developmental Genetics الذي أصبح فرعاً هاماً من فروع علم البيولوجيا الجزيئية، ولقد حاولنا في كتابنا هذا، أن لا نجعله مرجعاً تخصصياً، وإنما هو محاول للربط بين أشتات من فروع هندسة الوراثة ( هندسة الجينات ) وأهم تطبيقاتها في شتى المجالات، إضافة إلى عناية خاصة بالتقانات الحيوية Biotechinics وخاصة موضوعات الاستنساخ والاستنساد، ولم نقتصر على ذكر هذه الموضوعات من الوجهة العلمية فحسب، وإنما من الوجهة الاجتماعية والإنسانية والأخلاقية، والقانونية كوسيلة لجعل موضوعات هذا الكتاب موجهة من منظور فلسفي شمولي لذا تناولت معظم الفصول تلك التوجهات العلمية المنفلتة من عجلة الأخلاق والقيم والقانون في كثير من الأحيان لتثير القارئ وتنبهه إلى خطورة ذلك الانفلات غير الملتزم ليكون على بينة من مستقبل الإنسانية أمام هذا التيار الجارف من التوجهات الخطيرة لهذا العلم، ولقد جعلنا هذه الشمولية المعرفية طابعاً مميزاً لمعظم فصول الكتاب وخاصة الفصول الأخيرة منه التي تناولت آخر انتصارات هذا العلم، علم هندسة الوراثة والتقانات الحيوية، والذي كنا قد أصدرنا كتاباً مرجعياً بشأنه جعلنا في متنه معظم ما اكتشفه هذا العلم وهو عزّ نشوته حتى عام 1985م حيث صدر ذلك الكتاب بعنوان (( هندسة الأحياء وبيئة المستقبل )) Biotechnical Engineering & Future Environment وقد شرحنا في كتابنا الجديد هذا ضرورة أن يمارس هذا العلم والسيطرة على نفسه قبل كل شيء لأنه مرتبط بأنسنة الإنسان على الرغم من أن التقدم التقني للعلم قد أثمر تقدماً معاصراً أعطى الإنسان إمكانية أن يسيطر على قوى الطبيعة ويسخرها لتحقيق أطماعه، ولكنه لا بد له من أن يمارس قوته للسيطرة على نفسه ومنعها من تخريب البيئة Environment بمفهومها التكاملي (( طبيعة ومجتمعاً وثقافةً )) واستنزاف مواردها فذلك بالفعل إعلان عن كارثة للإنسانية جمعاء ولذا فإننا في فصولنا الأخيرة من هذا الكتاب ننادي بوضع دستور أخلاقي لتنظيم علاقة الإنسان بالطبيعة، وعلاقة العلم بالإنسان الذي يعتبر من أثمن ما في الوجود نأمل للقارئ الكريم أن يخرج من رحلته في قراءة هذا الكتاب بثمرات يانعات تثير في نفسه حب البحث والقراءة والتفكير بالمجهول البعيد، لأن كل ما اكتشفه العالم اليوم في مجال العلم والمعرفة كلها والفن بشتى صنوفه إن هو إلا كزبد البحر يلقيه البحر على الشاطئ.