تعيش الأجيال العربية فترة حرجة من تاريخها، فهي ترى أمم الشرق والغرب تتجمع وتتكتل وتكون قوى جبارة، بينما أمتهم يأكلها التمزق والفرقة، ويحيط بها عدوها من كل جانب، وتتقاذفها التيارات المذهبية والأيديولوجيات الوافدة عليها من الشرق ومن الغرب، تحاول طمس هويتها الثقافية والحضارية التي رسخت جذورها في أعماق التاريخ وأعماق القلوب، وامتدت ...
قراءة الكل
تعيش الأجيال العربية فترة حرجة من تاريخها، فهي ترى أمم الشرق والغرب تتجمع وتتكتل وتكون قوى جبارة، بينما أمتهم يأكلها التمزق والفرقة، ويحيط بها عدوها من كل جانب، وتتقاذفها التيارات المذهبية والأيديولوجيات الوافدة عليها من الشرق ومن الغرب، تحاول طمس هويتها الثقافية والحضارية التي رسخت جذورها في أعماق التاريخ وأعماق القلوب، وامتدت فروعها شامخة في عنان السماء. وقد كانت هذه التيارات تعد العرب بالفردوس الأرضي الذي ستقيمه لهم، وفي نفس الوقت تبتعد بهم تدريجياً عن منابع الأصالة الفكرية والدينية التي كانت هي المفجر والباعث لمجد العرب في ظل الإسلام.وبعد أن بدأت السحابة القاتمة لهذه التيارات بالانقشاع والتلاشي بدأت الأجيال تبحث عن ذاتها وعن هويتها الحقيقية، ووجدت أن دعاة المذهبية والحزبية والقومية العلمانية خدعوا أنفسهم وخدعوا أمتهم بمحاولاتهم تجريد العرب من ثقافتهم ودينهم، وذلك بالابتعاد بمفهوم القومية عن مضامينها الثقافية الإسلامية متناسين أن التاريخ لم يعرف شيئاً اسمه ( مجتمع عربي واحد ) إلا في ظل دين الله الذي حمله العرب رسالة نور وهداية وخير إلى البشر عامة ، وأن العرب الأوائل إنما اعتزوا بكونهم حملة رسالة، وليس بكونهم أصحاب (العصبية الجاهلية)، وأن كل أمم الأرض إذا أرادت أن تنهض فإنما تعتز أولاً بشخصيتها الثقافية والعقائدية وليس بأنها من عنصر معين، وأن القومية التي تستورد أفكار الآخرين (من شرق وغرب) وتفصّل منها ثياباً تلبسها وتتستر بها ستبقى قومية عارية من كل أصالة ومن كل منظور سليم، وستبقى كالشجرة التي اجتثت من فوق الأرض فما لها من قرار. بدأت الأجيال العربية تتساءل وتبحث عن سبب الداء لكي تعرف الدواء، وكان لا بد أن تعرف بأن الإنسان لا يمكن أن يفعل شيئاً إلا إذا آمن بأن ما يفعله صحيح وحق، وعلى هذا الأساس من الإيمان والقناعة كانت انطلاقة العرب المسلمين حينما أسسوا المجتمع العربي الإسلامي الأول في المدينة المنورة، إذ اعتنقوا الإسلام وآمنوا به عن قناعة ويقين، وأخلصوا الإيمان فتفجرت فيهم طاقات خير لا حدود لها، واستطاعوا أن يضربوا لكل أمم الأرض خير مثل على ما يمكن أن تفعله العقيدة الإسلامية من معجزات. وكان المجتمع الإسلامي المذكور نموذجاً فريداً لا يتكرر في أخلاقه ومعاملاته وفي التآخي بين أفراده، وفي كل ما يهم الإنسان ويوفر له الحياة الكريمة في دنياه وأخراه.وقد حاولنا في هذا الكتاب أن نسير مع تطورات هذا المجتمع بعد أن اتسعت دائرته لنرى ما جد عليه من شؤون، وما آل إليه من ضعف في زمن العباسيين بالذات (خاصة بعد المأمون)، وسرنا مع هذا المجتمع عبر خصائصه الداخلية وحاولنا أن نتفهم بعض الجوانب التي جعلته مختلفاً عن مجتمع المسلمين الأوائل في المدينة المنورة، وقد رأينا أن هناك أسباباً كثيرة لذلك، لعل أهمها هو تغير المثل الأعلى الإسلامي في نظر أبناء ذلك المجتمع ، وكان هذا التغير نفسه ناتجاً عن ظروف وملابسات جديدة متعددة. وتتبعنا ظروف هذا المجتمع في زمن غزو الصليبيين والمغول الذي يعد من أسباب الضعف الخارجية التي أثرت على المجتمع العربي المسلم، وحاولنا تفحص هذا المجتمع وظروفه خلال الحكم العثماني الذي امتد سنوات طويلة لنخرج بنتيجة مفادها أن المجتمع المعاصر تفاعلت عناصره البشرية العديدة أثناء فترة هذا الحكم التي امتدت لأكثر من أربعمائة عام ( 1516 – 1918 م). وخرجت منها جميعاً شخصية حضارية ثقافية واحدة تسود البلاد الواقعة بين المحيط والخليج هي الشخصية العربية الواحدة، ولذلك فقد حاولنا أن نقارن بين المجتمع الإسلامي الأول في المدينة المنورة وبين المجتمع العربي المعاصر، لأن الملاحظ أن كلمة (عربي) كانت أكثر بروزاً في هذين المجتمعين، ولكن في المجتمع الإسلامي الأول اقترنت هذه الكلمة بالإسلام قلباً وروحاً وعملاً، إذ لم يعرف التاريخ مجتمعاً عربياً موحداً قبل الرسول عليه الصلاة والسلام وخلفائه الراشدين بعد توحيد الجزيرة العربية تحت راية الإسلام. أما في العصر الحاضر فإن المحاولات الغربية والاستعمارية كانت ولا تزال مستميتة للفصل بين ما هو عربي وبين ما هو مسلم، وهذا ما أضعف الإسلام في نفوس كثير من العرب، وجعلهم يوزعون انتماءاتهم بين شيوعية وقومية علمانية وغيرها. إلا أن اكتشاف القومية العربية الحقيقية يعني عودة الأمور إلى مجاريها الصحيحة، ورجوع العرب زرافات ووحداناً إلى رحاب دينهم العظيم الذي لا وجود لهم إلا به، وهو الاكتشاف الذي بدأت تباشيره مع الصحوة المعاصرة. يقع هذا الكتاب في ستة أبواب مقسمة إلى سبعة عشر فصلاً: تناول الباب الأول أطرافاً من حياة العرب قبل الإسلام بشكل عام: ففي الفصل الأول بحث الكتاب في الأسس العامة التي يقوم عليها أي مجتمع، وقسمها إلى قسمين: (أسس بنائية وأسس ثقافية وتنظيمية). والغرض من هذا الفصل هو أن نجعل منه أرضية علمية فكرية (بمقاييس علم الاجتماع نطبقها على العرب قبل الإسلام لكي نجيب على سؤال مهم وهو: هل كان هناك مجتمع عربي قبل الإسلام أم لا؟وقد خرجنا بنتيجة هي أنه لم يكن هناك ما يمكن تسميته باسم (المجتمع العربي) قبل الإسلام. وكان هذا الجواب على سؤالنا المذكور مستنداً إلى دراسة وضع القبائل العربية المبعثرة في الصحراء من نواح عديدة جرى بحثها في الفصل الثاني والثالث والرابع .أما الباب الثاني فقد كان بعنوان: الدين الإسلامي والمجتمع العربي، وقد قسّم هذا الباب إلى فصلين هما الخامس والسادس، تناول الخامس منهما نواة المجتمع العربي الإسلامي في مكة وفي المدينة، وبيّن أحوال المدينتين قبل الإسلام، وخص مجتمع المدينة بدراسة التحولات النفسية والاجتماعية والسياسية بعد الهجرة الشريفة إليها. أما الفصل السادس فقد بيّن الأسس الطبيعية (البنائية) والأسس الثقافية والتنظيمية التي قام عليها المجتمع العربي الإسلامي الأول، وقسّم الثانية منها (الثقافية والتنظيمية) إلى ثلاث ركائز هي الركيزة الفردية التي شملت العقيدة والمبدأ الخلقي، مع محاولة للتركيز على ما قام به الإسلام من جهد موفّق في بناء الإنسان الجديد بدءاً بتربية ضميره وشعوره بالواجب، ومن هنا كان لا بدّ من التوقف لمقارنة فكرة الواجب في الإسلام بفكرة الواجب عند فيلسوفها في العصر الحديث وهو (إمانويل كانت)، (لنرى تميّز الفكرة الإسلامية بإمكانية الاستفادة منها في التطبيق العملي السلوكي بسهولة أكبر مما كانت عند (كانت)، مع فضل السبق لها عليه. والركيزة الثانية هي الركيزة الاجتماعية التي شملت الأسرة وعلاقات القرابة والمعاملات والعلاقات الاجتماعية مع الآخرين. والركيزة الثالثة: كانت هي الركيزة السياسية، وهي تتناول حدود مسؤوليات الحاكم وواجباته، والرعية وواجباتها والعلاقات السياسية مع الآخرين بتناول جديد يضعها في تسلسلها المناسب مع الواجبات الأخرى. أما الباب الثالث فقد تناول بالبحث العوامل الداخلية التي أدت إلى ضعف المجتمع العربي المسلم خصوصاً في زمن الأمويين (بعد الفتوحات الكبيرة) وفي زمن العباسيين. وقد جرى تحديد بعض هذه الأسباب ومنها طبيعة المجتمع العربي ومسألة الخلافة والإمامة والعصبية والشعوبية، وأخيراً انتشار الملذات والغنى وتنحي العرب عن مراكز القيادة. وقد بحثت هذه الأسباب في الفصول التي ضمها هذا الباب (من السابع إلى نهاية العاشر) كما جرى بحث العوامل الخارجية التي أدت إلى ضعف المجتمع العربي في الباب الرابع، حيث حددنا عاملين هما: امتزاج العرب بغيرهم من الأمم والغزو الخارجي في الفصلين الحادي عشر والثالث عشر . أما الفصل الواقع بينهما (الثاني عشر) فقد بحثنا فيه الآثار الثقافية الناتجة عن امتزاج العرب بغيرهم، وكان أهم هذه الآثار وأخطرها على المجتمع هو تغير القيم والمفاهيم والمثل العليا الإسلامية في نفوس الناس.وفي الباب الخامس بحثنا في وضع العرب بين الدين والقومية، وقد شمل الباب فصلين هما الرابع عشر والخامس عشر، فكان الرابع عشر بعنوان(عرب وأتراك) حيث استعرضنا بعض الخصائص البارزة التي امتاز بها حكم العثمانيين، وكيف أن الشخصية العربية تبلورت في ظل هذا الحكم الذي شكل درعاً واقية للوطن العربي ضد الغزو الصليبي المتجدد بعد هزيمة الصليبيين نهائياً وخروجهم من بلاد الشام – من فلسطين خاصة- في سنة 1291 م – 690 هـ، كما بيناه بالتفصيل في مكانه من هذا الفصل – حيث تفاعلت جميع العناصر البشرية التي كانت تسكن هذا الوطن تفاعلاً ديموغرفيا وثقافياً، وذابت معظم الأقليات العرقية والثقافية في بوتقة الإسلام واللغة العربية الواحدة لسكان هذا الوطن، كما تناول الفصل الخامس عشر وضع العرب بين الإقليمية والقومية بعد أن جرت أحداث الحرب العالمية الأولى وما سبقها من تطورات وتفاعلات مرت بالوطن العربي. وأخيراً وصلنا إلى محاولة العرب ( متمثلين في أجيالهم الجديدة ) أن يبحثوا عن ذاتهم الحضارية المستقلة التي كادت تعصف بها الأيديولوجيات الغربية والصهيونية، وكان هذا البحث عن الذات بعد الحرب والكوارث المتوالية من الاستعمار والصهيونية العنصرية فكانت النتيجة بدء الصحوة المعاصرة. وأخيراً يأتي الباب السادس بعنوان المجتمع العربي الراهن، ويحتوي فصلين هما الأخيران في الكتاب، فالفصل السادس عشر تناول هذه الصحوة المعاصرة ليبين أسبابها العامة والمجالات التي شملتها الصحوة فحدد مجالين هما: المجال الفكري العام ومجال الصحوة الإسلامية، كما بين الفصل تذبذب هذه الصحوة بين التطرف والاعتدال، وهكذا حاولنا أن نضع في دائرة الضوء أوضاعاً تاريخية وديموغرافية واجتماعية وثقافية خاصة بالمجتمع العربي في مراحل متلاحقة من حياته. وذلك لكي يستطيع الإنسان عقد مقارنة عامة بين هذه الأوضاع، خصوصاً بين وضع المجتمع العربي الحديث ( منذ نهايات حكم العثمانيين وإلى أواخر القرن الميلادي العشرين ) وبين المجتمع العربي الإسلامي الأول في زمن الرسول عليه الصلاة والسلام وحتى بدايات العصر الأموي. ولذلك فقد أوضحنا في البابين الخامس والسادس جوانب مهمة عن المجتمع العربي الحديث والمعاصر، لتكون المقارنة ممكنة بين الجانبين المذكورين ولنخرج في النهاية والثقة تملأ نفوسنا بأن أمتنا العربية المسلمة لا بد أن تستأنف مسيرتها وتعود إلى جادة الصواب طال الزمن أم قصر. وقد حاولنا إجراء بعض المقارنات السريعة والجزئية بين المجتمع الحديث في فترة من فتراته، وبين قبائل العرب في الجاهلية، ثم بين المجتمع المعاصر والمجتمع الإسلامي الأول، تاركين لقارئ الكتاب أن يقارن بين أوضاع المجتمع العربي في مراحله التاريخية بشكل أوسع بكثير مما أوردناه. ومهما قيل حول طبيعة المنهج المقارن، وادعاء بعض الباحثين بأنه يجب أن تكون المقارنة بين مجتمعين مختلفين أو ما أشبه ذلك، فإننا نعرض عن هذا متبعين حرية الفكر والبحث وحرية المقارنة والاستنتاج والتوقع، ولا يمكن أن نلتزم بقوالب جامدة صنعها بعض الباحثين في مجال دراسة نماذج مختلفة من المجتمعات. وأخيراً كان لا بد من النظر إلى المستقبل لتكتمل الصورة، لأن المستقبل ابن الحاضر وسليل الماضي، لذلك كان الفصل السابع عشر بعنوان (الإمكانيات والمستقبل) حيث نحاول استشفاف درب المسيرة العربية الإسلامية، فتكلمنا عن العوامل المشتركة بين العرب والتي يمكن أن تكون الأساس المكين لوحدتهم – سواء من الناحية البنائية أو من الناحية الثقافية والتنظيمية، وكان أهم هذه العوامل – كما نعتقد – هو بلوغ المجتمع العربي سن الرشد في كل المجالات: الدينية والثقافية والاجتماعية والسياسية، وأن يستعيد العرب المسلمون استلهام مثلهم الأعلى من دينهم وتاريخهم. وحاولنا النظر إلى آفاق المستقبل وأن نتوقع التقاء الدين بالقومية التي يمكن أن تكون عاملاً نشيطاً وقوياً تعمل في خدمة الدين وتحمل رسالته، كما حملها من قبل أجدادنا العظام البررة وبلّغوها بصدق وأمانة إلى العالم شرقه وغربة، وما ذلك على الله بعزيز، وعندما يتم هذا اللقاء بين الجانبين ويأخذ كل منهما وضعه الطبيعي والصحيح فإنه لا يمكن أن يكون هناك نزاع بين الدين والقومية التي تكون عندئذ قومية مسلمة مؤمنة بالله، ولا تقوم قائمة لها إلا إذا كانت روحها وفكرها العقيدة الإسلامية. وبعد، فقد حاولنا في هذا الكتاب أن نتناول هذه الموضوعات الخطيرة بصدق نابع من الضمير، مراقب لله تعالى فيما يقول ، مترفع عن مواطن الريبة أو الاتهام لأحد، لأننا لسنا في حاجة إلى ترديد اتهامات طالما سمعناها، وكثير منها مسجل في بطون الكتب ولا حاجة بنا لتكرارها، بل لقد حاولنا أن نتناول موضوعنا بأسلوب جديد، وبمنطق هادئ يحلل الأمور ويتعقبها ليرى آثارها ويطبق عليها منطق العلم والعقل الواعي والنظر الدقيق بقدر ما يسر الله لنا منه. وإن موضوعات (سلسلة الحضارة والفكر) كلها تصب في مجرى واحد هو محاولة السير مع مسيرة الحضارة العربية الإسلامية في مجتمعها، وذلك بإلقاء الضوء على بعض جوانبها وتفهمها بقدر ما يسمح به الاجتهاد، وما يرزق الله به من قدرة على فهم الأمور، إيماناً منا بأن هذه الأمة العظيمة لا بد أن تعود يوماً ما إلى دينها وإلى منابعها الأصيلة الثرة، ولا بد أن تكتشف ذاتها لتنطلق ثانية إلى حيث يجب أن تكون مهما واجهت من العوائق ومهما تكالب عليها الأعداء. والله تعالى هو صاحب الأمر والتدبير والعلم أولاً وأخيراً (سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا) ضارعين إليه تبارك وتعالى أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهة الكريم وأن يلهمنا الصواب، إنه نعم المولى ونعم النصير، والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين، منقذ البشرية من الضلال والهلاك.