المقدمةإنّ موضوع "الوحل الروسي في القوقاز – في انهيار العقيدة العسكرية الروسية أمام قوس التحدي الإسلامي الشيشاني – "هو واجهة لما يمثل ملتقى وتزاوج بين حقل العلاقات الدولية وميدان الإستراتيجية العسكرية بأدوات ونظرة إسلامية، ويسلط الضوء على ما يصطلح عليه: "بحرب العصابات" في أشكال جديدة، وكفرع من "إستراتيجية إعداد القوى ورباط الخيل...
قراءة الكل
المقدمةإنّ موضوع "الوحل الروسي في القوقاز – في انهيار العقيدة العسكرية الروسية أمام قوس التحدي الإسلامي الشيشاني – "هو واجهة لما يمثل ملتقى وتزاوج بين حقل العلاقات الدولية وميدان الإستراتيجية العسكرية بأدوات ونظرة إسلامية، ويسلط الضوء على ما يصطلح عليه: "بحرب العصابات" في أشكال جديدة، وكفرع من "إستراتيجية إعداد القوى ورباط الخيل" ويمثل صورة واقعية ومنطقية لأساليب وخبرات إعداد القوى المبنية على الواقعية، بالابتعاد عن النظريات الجامدة ومعرفة الحقيقة المجردة والميدانية بمحاسنها ومساوئها، واستنباط الفوائد الممكن استغلالها للصالح العسكري الحربي، ولحقل العلاقات الدولية والذي طغت عليه الرؤى والعمليات التنظيرية غير الإسلامية، وسيطرت كبريات المذاهب والمدارس العسكرية الغربية والشرقية منها، والتي كانت لها دوما آخر السيناريوهات المغيرة من مجرى العلاقات الدولية (الحرب هي استمرار للسياسة ولكن بوسائل أخرى) وخاصة ما يمسّ منها العالم الإسلامي : "من كتابات سونزي –Suntzu" و"ماوتسي تونغ Mao-tsé-tung " إلى "كلاوز فيتز". ومن نظرية الحرب الشاملة إلى غاية الحرب الوقائية مرورا بالحروب الشعبية ومنها حرب العصابات : فلقد بدأ تبلور حرب العصابات بهذا المعنى إبّان غزوة أحدّ حيث وصلت للرسول صلى الله عليه وسلم أخبار عن تحالف الكفار لإعداد العدة لمهاجمة المدينة، فاستشار الرسول صلى الله عليه وسلم صحابته أن يخرج لهم أمّ لا ؟ فاستشار أكثريتهم، وهم من الشباب والذين رأوا أنّه لابد من الخروج لهم ومقاتلتهم حتى لا يصلوا لهم ويقال عنهم جبناء، ولفطنة الرسول صلى الله عليه وسلم وحكمته، وبعد المشورة، رأى أنّه لابد من عدم التسرع والقلق، بلّ الأجدر انتظارهم في المدينة، حتىّ ينقضوا عليهم وهم على فرقة من أمرهم( )، وتقع حرب العصابات آنذاك تحت مسمى الأنصار نسبة لحمية قلوب الأنصار وأحد سادتها "سعد بن معاذ" لتنطلق شارات أولى حروب الأنصار في بداية السنة الثانية من الهجرة، والتي بنت التصورات الاعتقادية للمسلمين على أسس تجريبية وليست نظريات فلسفية، لذا خاض المسلمون عدداً من السرايا والغزوات الصغيرة والمتتابعة، كان أولها : سرية "سيف البحر" في رمضان من السنة الأولى للهجرة لاعتراض عير لقريش قادمة من الشام، فجاء أبو جهل في ثلاثمائة مقاتل واصطفّ الفريقان للقتال، وكان عدد المسلمين ثلاثون مقاتلاً فقط، وكانت أهمية هذه السرية أنها كسرت هبة المشركين وهيبة مواجهة أعداد ضخمة تفوق المسلمين عشرة أضعاف. إلى جانب "سرية رابع" في شوال من نفس العام، وكان عدد المهاجرين ستون، والمشركين مائتان. بل إن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في بعض السرايا مثل غزوة "ذي العشيرة" في جمادى الأولى من السنة الثانية للهجرة، لاعتراض عير لقريش ذهبوا إلى الشام، لكنها سبقت المسلمين فأفلتت منهم، وكانت هذه العير هي سبب خروج المسلمين في "بدر الكبرى" لاعتراضها في طريق عودتها. فحرب الأنصار بنت التصور الإسلامي لعوامل النصر والهزيمة بطريقة عملية واقعية وقررت أن النصر ليس بالعدد ولا بالعدة، وإنما بمقدار الاتصال بالله الذي لا تقف أمامه قوة العباد.كما عرف المفهوم تطوراً بعد ذلك على يد الإسبان الذين شكلّوا من بينهم عصابات مسلحة لمقاومة نابليون وإزعاجه وإنهاكه بعد هزيمة قواتهم النظامية على يديه. وقد ساهمت هذه العصابات الإسبانية فيما بعد مساهمة ملموسة في معاونة ويلنجتون (Wilington) حين دخل بقواته النظامية ضد نابليون في المعركة المعروفة باسم " معركة واترلو" La bataille de Waterloo عام 1815م.فحرب العصابات هي: " نوع من الحروب التي تخوضها تشكيلات مسلحة في أجزاء مختلفة من العالم، حيث تكون فيها هذه الجماعات تعمل من أجل معتقد أو مصلحة محددة ( اقتصادية – سياسية – أيديولوجية ...)، بدعم من طرف أغلبية السكان". وتطورت حرب العصابات بعد الحرب العالمية الأولى بأفريقيا، آسيا وأمريكا اللاتينية كحركة تحررية ثورية مسلحة ضدّ الوجود الاستعماري بدول هذه القارات مثل (الصين، كوبا، الجزائر الفيتنام ...) وهذا بين بداية الخمسينيات وبداية الستينيات. وحرب العصابات بهذا المعنى الذي أوضحناه تختلف عن صور أخرى قد تشتبه معها مثل الحرب الأهلية، والمقاومة الشعبية، والثورة، والعصيان، والتمرد:- فالحرب الأهلية، هي تلك التي تنشأ بين مجموعتين أو مجموعات متكافئة تمّت لبلد واحد.- وأما المقاومة الشعبية، فهي نوع من الدفاع التلقائي غير المنظم يلجأ إليه الشعب عاطفيا لمقاومة قوات محتلة أو آخذة في الاحتلال، ودون أن ينتهج الشعب في ذلك تنظيما سياسيا معينا.- وأما الثورة، فهي حادث سياسي جلل، يقلب الأوضاع في دولة معيّنة، ليرتفع بمستوى الواقع إلى مستوى الآمال الوطنية. - أما العصيان والتمرد، فهما هبة مسلحة تتقرر نتيجتها بسرعة. وهذه لاشك نماذج لا علاقة لها بحرب العصابات التي نتحدث عنها، والتي يعتبر ماوتسي تونغ أول من وضع قوانينها الإستراتيجية في العصر الحديث، بحيث صارت بهذه القوانين ظاهرة من ظواهر الحرب تعادل في أهميتها وخطورتها أنواع الحروب الأخرى. وللتدليل على أهمية هذا النوع من الحروب، نذكّر بالنتائج التي حققتها العصابات الصينية ضد الغزاة اليابانيين، والسوفيتية ضد الألمانيين، والجزائرية ضد الفرنسيين والفيتنامية ضد الفرنسيين ثم الأمريكيين، وأخيرا قوات " حركة موختي باهيتي" في البنغلاديش ضد القوات الباكستانية.بل إنه ليس أدل على أهمية هذا النوع من الحروب، من أن دولا كالولايات المتحدة الأمريكية، وألمانيا الاتحادية-سابقا- وفرنسا، قد استفادت من فكرته بإنشاء قوات تنتهج أسلوب حرب العصابات بالرغم مما تملكه هذه الدّول من إمكانات التعبئة النظامية.وعلى أية حال، فسوف نقطع تماما بأهمية هذا النوع من الحروب، إذا ما استقينا أنها ليست صورة مصغّرة للحرب التقليدية( )، وإنما هي حروب مختلفة تماما في قوانينها ومبادئها وكيفية الإعداد لها – وهو ما سيتضح من دراستنا لعناصر هذه الحرب وكيفية الإعداد لها شيشانياً-.فبعد أن خطت الكفاءة القتالية أشواطا كاملة في تحقيق معادلة المقاتل البارد واختراق مفهوم الفعالية لدى الجيوش والمعلومة الإستراتيجية، وبدخولها في نزاع مسلح مع ما يسمى "بالمقاومة الشّيشانية" تصطدم المدرسة الحربية الرّوسية بواقع ومعطيات مغايرة، برغم كل ما يشاع عن قوة المقاتل الرّوسي وصلابته التي تميزه عن باقي الجنود في العالم غير الإسلامي. وهنا يجدر بنا الإنطلاق من سيادة المفاهيم السابقة في مفكرة العلاقات الدولية، في بعدها الحركي العسكري عامة، والأكاديمي الحربي خاصّة.وسنحاول هنا أن نضع هذه المسألة في إطارها التحليلي المعلوماتي: سنختار نماذج لقادة الجهاد الشّيشاني، ونتعرض لفريقين من الرؤساء والآخر يمثل القادة الميدانيين لكل من الشّيشان والرّوس، دون إهمال الجانب السياسي والتاريخي الإيضاحي لحيثيات ومجرى قضية " الحرب الشّيشانوروسية" والاستفسار حول مسألة "حقيقة استقلال الجمهورية الإسلامية الشّيشانية" كباقي جمهوريات منطقة القوقاز- كما هو الأمر بالنسبة لجمهورية تاتارستان الإسلامية- من روسيا الفيديرالية، وكأي شعب من الشعوب المسلمة المطالبة بكيان ذاتي لها، حفاظا على هويتّها. وهنا سنقف على مقولة القادة الرّوس: "دمّروا الإسلام وأبيدوا أهله"( ) وتبيان الأبعاد التي اتخذتها الحرب، حيث سنقف على مقولة الرئيس الشهيد يندرباييف لمعرفة حقيقة حرب العصابات الشّيشانية (التي تعد جزءا أساسي من السلوك الحربي الشامل للجهاد المسلح): "إن الجهاد الإسلامي لا يرتبط بالأشخاص، ونحن متوكّلون على الله، مستعينون به، ومن اختار الجهاد وكان مخلصا في اختياره، فإن الله سيساعده ويثّبته ..."( ) وما أحدثته هذه الأخيرة من تجديد على مستوى أساليب القتال والحربية الشّيشانية، وما أحدثته من معاول هدم على مستوى المدرسة العسكرية الرّوسية، وإدخال تغييرات على "استراتيجية حرب العصابات" والنظريات الثورية، وعلى مفاهيم "الحرب العادلة"، قصد تدعيمها بمناهج وتكتيك جديد، سيتسنى لنا معرفة محتواها ومضمونها من خلال دراسة الخلفيات والمنطلقات التي تقوم عليها حرب العصابات الشّيشانية وتكتيكها القتالي. فعند التطرق لاحتكاك الخبرة الشّيشانية بالحرب منذ القدم، سنرى ما اقتبسته من نظريات عسكرية نابعة من معرفتها وتجربتها السابقة، وعلاقتها بالمحيط الإستراتيجي والطبوغرافي لميدان الحرب.في الحقيقة الموضوع يمثل حركية مستمرة لما ستعرفه العلاقات الدولية من ظهور لتنظيمات وأساليب حربية، تحمل معها رسالة (من مطلب استقلال وحدات إلى الدفاع عن هوية دينية أو قضايا إنسانية، أو رافضة لسياسات داخلية أو حتى دولية ما). المهم هو أن ظهور هذه التنظيمات والأساليب سيلغي مقولة التفوق العسكري الغربي، بإدخال مفاهيم جديدة في ميدان الحربية أولا، وعلى مستوى العلاقات الدولية ثانيا، التي تفتقد لمثل هذه المواضيع التي تخاطب المجتمع الدولي وفاعليه في الصميم، والتي عليها أن تغير نظرتها اتجاه بعض المفاهيم كـ: "الإرهاب، الأصولية، التطرف الديني، الإسلامية والإسلاميون، والجهاد الإسلامي"، وإيجاد رؤى وتفسيرات أكثر موضوعية وواقعية، ومستقلة، لا تعتريها تأويلات ولا تبريرات صادرة من مغالطات ومزايدات لا تخدم الأمانة العلمية ولا الإنصاف التاريخي. فتوخّي البصيرة والعلميّة في تناول أشباه هذه المفاهيم، أمر جدّ هام، كونها ستشكل البؤرة والبعد الحقيقي لاهتمام وانشغال حقل العلاقات الدولية.فحرب العصابات الجديدة – والتي هي موضوع الدّراسة- تدخل في إطار استراتيجية إعداد القوى ورباط الخيل خاصّة، واستعداد المقاتلين عامّة على عوامل الوضع الإستراتيجي، والتي تكتسي أهميّة فعليّة في بناء قوة الجيوش وتحديد ثقلها في الحرب: من أجل حسم أسباب الإنتصار والهزيمة عن طريق أساليب تكتيكية هجومية ودفاعية انتهجتها فصائل حرب العصابات الشّيشانية.فلكل نظام حربي أفكار ونظريات تنسجم معه. وقد يكون اختيار هذه النظرية أو تلك صائبا في ظروف معيّنة وغارقا في الخطأ في ظروف أخرى. وفي هذه الفكرة تكمن الحقيقة الإستراتيجية الأساسية للمنظومة الهجومية أو الدفاعية لحرب العصابات الجديدة، المستمدة من ثقافة الجهاد في المجتمع الشّيشاني المسلم، كغيره من المجتمعات الإسلامية الأخرى، ثقافة راسخة رسوخ العقيدة فيها –وإن غيّبت-.ومن هذا المنطلق يمكن التفريق بين أن تهزم عدوك بالقوة (وهو نمط حرب العصابات القديم)، وبين أن تملك عناصر الجهاد المسلح وتهزمه بقوة الإيمان والبقاء والتحمل، وهو ما سيبطل كل من نظريات ماوتسي تونغ وأندري بوفر (Andrei Bover) (الخاصة بالمقاومة الشعبية وحرب العصابات)، وتركيزها على العامل الهجومي باعتباره عامل مهيمن، وهو ما يؤدي في العادة إلى ضمان استمرارية نشاط ذلك الطرف المندفع( ) لتتراجع أمام ما ذهب إليه الجنرال الأمريكي "جيمس جونس" (James jones) والذي رأى من الأفضل أن تكون لدى الساسة والعسكريين خطة بديلة في جيوبهم الخلفية، كون أنهم عندما يهاجمون أناسا في وطنهم، فإنهم سيحاربون بشكل يختلف عن قتالهم. كون الدفاع عن الوطن مسألة جديّة لأنهم ليس لديهم أي مكان يذهبون إليه بعد ذلك وهو ما استنتجه العقيد "براتيسلافا فييتشكا" (Bratislava Vietchka) وهو مستشار الأمن الرئاسي التابع لفرق "قوة دلتا" الأمريكيةU.S Delta Force " خلال تتبعه للحرب الشّيشانية الرّوسية، وهو ما يعبّر عن ميلاد لعقيدة حربية وأسلوب قتالي سيحسب له ألف حساب في الميزان الدولي آنيا ومستقبلا في نفس الوقت.