كل شيء مسموح في روايات (آيرس مردوك) 1-2 - عبدالستار ناصر / قاص عراقي مقيم في عمانبرغم وضوح اسمها بالحروف اللاتينية( Iris Murdoeh) لكن العرب تكتبها( آيريس مردوخ) كما تفعل دار الآداب، ثم( آيريس مردوك) كما هو الحال في دمشق، أما هادي الطائي مترجم روايتها الشهيرة( الرأس المقطوع) فهو أول من كتب( آيرس مردوك) علي غلافها بعد حذف الياء ال...
قراءة الكل
كل شيء مسموح في روايات (آيرس مردوك) 1-2 - عبدالستار ناصر / قاص عراقي مقيم في عمانبرغم وضوح اسمها بالحروف اللاتينية( Iris Murdoeh) لكن العرب تكتبها( آيريس مردوخ) كما تفعل دار الآداب، ثم( آيريس مردوك) كما هو الحال في دمشق، أما هادي الطائي مترجم روايتها الشهيرة( الرأس المقطوع) فهو أول من كتب( آيرس مردوك) علي غلافها بعد حذف الياء الثاني من اسمها الأول.عرفناها في ترجمات فؤاد كامل الذي قدمها للعربية منذ باكورة إنتاجها (الفتاة الإيطالية) و( تحت الشبكة) و(الأجراس) و(البحر البحر) ثم روايتها المتميزة (حلم برونو) إذ تبدو هذه الكاتبة أشبه بالطبيب النفساني الذي يعالج مرضي الطبقة البرجوازية وكل عمل من أعمال آيرس مردوك يكشف عن العلاقات الحسية البرجوازية في عموم بريطانيا، تبدأ من الاهتمام المرضي بالملابس حد( الفيتيشية) إلي إجهاض الفتيات المتكرر، إلي حالات الموت انتحاراً بسبب اليأس والكآبة والضجر.والرواية كما يصفها الناقد( مالكوم برادبري) كوميديا ماكرة، وتصرفات الناس داخل أوراقها تشبه حركة النمل في جوزة فاسدة، وجاء كلامه مطابقاً لما سنراه في (الرأس المقطوع) التي يحتاج أي قارئ لها، إلي الكثير من التأمل والصبر ورقابة شخوصها لئلا يخلط بين هذا وذلك لا سيما وأن أسماء (اللاعبين) فيها توشك أن تتشابه.وآيرس مردوك تنغمس وتغوص في داخل أبطالها، تكاد تكون معهم في الصورة التي سوف يرسمها القارئ قبل أن ينتهي من أيما عمل أدبي لها، وأيضاً نري في أغلب كتاباتها طبيباً نفسياً أو شخصيات قادرة علي تفسير العنف وأسباب الادمان أو الرغبة في موت مبكر.أما في (الرأس المقطوع) التي ظهرت أول مرة في عام 1961 فهي أكثر رواياتها اختراقاً للعقبات التقليدية التي يعيشها البرجوازي من إفراط في الخمر وإفراط في الجنس( علي أنه انتصار ذكوري من نوع ما) إلي جانب الخوف الدائم من الإفلاس والشيخوخة والعجز.***رواية( الرأس المقطوع) هي سبب شهرة(آيرس مردوك) في بريطانيا وأمريكا، وقد طبع منها حتي عام 1992 أكثر من ثلاثين طبعة، ولم تترجم رواياتها إلي العربية قبل عام 1974 وكان ذلك في بيروت عن منشورات دار الآداب ثم عن روايات الهلال في القاهرة.أكثر من نصف الرواية حوارات عنيفة متشابكة ومتشعبة بين أبطالها وقد كتبتها علي أجزاء صغيرة تشبه الشهيق والزفير وتبتعد عن كتم الشهيق أكثر مما يحتمل القارئ حتي وصلت أجزاء الرواية إلي ثلاثين رقماً، كما لو أنها أرادت القول أن الرواية تحكي شهراً من عمر شخصياتها وما تم في هذا الشهر العجيب من أحداث وأسرار وفضائح وخبايا.والذي يؤكد هذا الأمر استخدامها تعابير( في صباح اليوم التالي) أو( عند المساء) أو( عند فجر اليوم الثاني) أو( عند الظهيرة) مثلاً دون أن تستخدم ( بعد عام علي ما جري) أو( بعد شهرين علي تلك الحادثة) مثلاً.والرواية لا تبتعد كثيراً عن البيوت المغلقة وعن غرف النوم وعن فراش الخيانات المتكررة، ولا يوجد في الرواية من يعكر مزاج تلك البيوت أو يقطع عليها تسلسل حياتها التي توحي بأنها علي نسق واحد مع أن الخراب يوشك أن يحطم أركانها في أية لحظة.وإذا نظرنا إلي خارطة الرواية وشخوصها لرأينا الراوي بطل (الرأس المقطوع) واسمه( مارتن لنتش) علي علاقة مع الفتاة الصغيرة( جورجي) بينما زوجته ( أنطونيا) علي علاقة بطبيبها النفساني( بالمر آندرسن) وهذا الطبيب يفاجئنا بعلاقته المحرمة مع أخته (أونر كلاين) أما(جورجي) عشيقة مارتن فسوف تكون فيما بعد من نصيب( ألكسندر) شقيق مارتن، بينما تنتهي الرواية بعلاقة بطلها مع(أونر كلاين) التي يصفها بالشيطان، ويهرب الطبيب النفساني مع (جورجي) دون أن يتعب أي واحد منهم من تلك الخيانات المزدوجة بل يسوغها كل منهم بطريقته الخاصة وتكون آخر المفاجآت علاقة (أنطونيا) زوجة مارتن بشقيقه(ألكسندر) بعد أن تركت عشيقها السابق في الوقت نفسه زرع فيها شهوة الحرية ولعبة الجنس والتمرد علي حياتها الهادئة الناجحة المستقرة.كل شيء مسموح به، هكذا يقول الطبيب (بالمر) الذي ترك أخته لمارتن بعد أن أجهض علاقته بزوجته (أنطونيا) بينما يمضي مارتن إلي حالة من الجنون بشخصية( أونر كلاين) بعد أن كان يكرهها ويشمئز من تصرفاتها العدوانية بل كاد يقطع رأسها بالسيف ذات ساعة من ساعات الحقد، وإذ حاول أخيراً أن يعترف لها بحبه يراها عارية في فراشها مع رجل لم يكن غير شقيقها بالمر آندرسن (عشيق زوجته وطبيبها الذي سرق منه حياتها ورماه إلي اليأس والإدمان).لا بد من التذكير، أن أول عمل نشرته( آيرس مردوك) كان بعنوان( سارتر، العقلاني الرومانسي) عام 1935 وقد جذب انتباه القراء والنقاد إلي موهبة (مردوك) التي كان عمرها آنذاك 34 سنة وهو سن مبكر علي دراسة جان بول سارتر مؤلف(الوجود والعدم) و(دروب الحرية). ربما لهذا السبب، نري بين صفحات روايتها أسماء مبدعين وعناوين كتب ومعزوفات موسيقية حتي تؤطر المجتمع البرجوازي بما يحتاجه من وجاهة واستعراض ورتوش وزخرفة، فهنا كتاب عن الأساطير اليابانية، وهناك دانتي وهوميروس وكتب في الاقتصاد إلي جانب( أوبرا نهاية الآلهة) تأليف (فاجنر) بينما يقرأ مارتن إحدي قصائد شكسبير أما أونر كلاين فهي تقرأ قصة (جايجس وكاندا وليس) لهيرودوتس وهكذا نجد القشرة الخارجية اللامعة البراقة مهمة جداً لمجتمع بريطانيا البرجوازي الذي يقول شيئاً ويخفي أشياء. شخصيات آيرس مردوك تبدو قوية وتوهم بذلك أيضاً لكنها تتشظي كما الزجاج المكسور بل هي منخورة من الداخل ومحبطة وبرغم ذلك تحاول السيطرة علي ما تبقي كما أنها شخصيات ناجحة كما يراها الآخر تحيا حياتها مع ابتسامة خادمة لا تفارقها أبداً لكنها حين تكون مع ذاتها دون رقيب تراها عارية حتي من ورق التوت متسخة جلودها ومقروحة وتشكو من سرطان الخوف تحتمي بالخمر والحبوب المنومة والجنس مع أن الخطر لم يكن قاب قوسين منها بل هي قاب قوسين منه تحاول الفرار من مصيرها مع أن مصيرها ليس من ملامح له. الرأس المقطوع، نقطة تحول أساسية في مسيرة( مردوك) جلبت لها شهرة واسعة إلي جانب روايتها( البحر البحر) التي حازت بسببها علي جائزة ( بوكر كونل) عام 1978 كما حازت علي جائزة (وتبرد) عن روايتها (ماكنة الحب المقدسة المدنسة) عام 1974 وهي نفسها السنة التي انتبه فيها المترجم العربي لنقل أعمالها حيث جاءتنا أول ترجمة لها عن روايتها (الهروب من الساحر) ومن بعدها (الأحمر والأخضر) التي كتبتها في سنة 1965.***الطبقة البرجوازية تقاليدها طبائعها، أمراضها، عيوبها، هو محور رواية (الرأس المقطوع) والمدهش فيما فعلته (مردوك) هو أنها كتبتها علي لسان رجل هو( مارتن لنتش) بائع الخمور، الزوج الناجح الذي عصفت به خيانة زوجته، مع أنه هو في الوقت نفسه علي علاقة بامرأة أخري إنها علي ما يبدو( موهبة العيش في عالم أكثر تشويقاً وأكثر ادهاشاً) بحسب ما يراه الناقد الكبير ريجارد تود الذي قال عن آيرس مردوك إنها تؤسس اللاعقلاني في مكان هادئ وتؤسس العقلاني في بقعة مشتعلة لا يمكن الذهاب إليها.وبهذا المعني، تلعب آيرس مردوك علي أعصاب الشخصيات وتوشك أن تقول في روايتها أرجوك أيها القارئ أن تصدق هذه الغرائب التي حدثت فعلاً، ما دامت قد أخبرتنا مسبقاً أن الأحداث جرت بين منطقة( هرفورد سكوير) و(لونديز سكوير) ولسان حالها يكرر: إن ما حدث كان تماماً ما لم أتمني أن يحدث! أبطال الرواية علي يقين من الجرائم الصغيرة التي يتمتعون بها وكل واحد يفكر في تسويغ مناسب ومعقول عند اقترافه الخيانة فهذا مارتن لنتش يقول عن علاقته بجورجي:- ليس بالمستطاع أن أخون زوجتي إلا مع إنسانة واعية علي هذا النحو الرفيع.... ص11بينما تبرر( أنطونيا) خيانتها بالقول:- لقد علمني بالمر كيف أعود إلي نفسي وأكون (أنا) التي أوشكت أن تموت.والحال نفسه مع (أونر كلاين) و(الكسندر) ثم (جورجي) التي تري في خياناتها وهياجها الجنسي الدائم أول معاني الحرية والانعتاق من أسلاك المجتمع وحيطان التقاليد، لكنها تنتهي إلي قتل نفسها في آخر المطاف بكميات كبيرة من الحبوب (دون أن تموت) إحساساً متأخراً منها: بأن الحرية ليست أن نفعل ما نريد، وإنما هي ما يجب أن نفعله، وهي فكرة أخذتها (مردوك) من أفكار سارتر في(سن الرشد) أول أجزاء دروب الحرية ثلاثيته الرائعة.