هل بالإمكان تأسيس فكر حقوق إنسان في غياب التاريخية ودون الاعتماد على روحية فكرية تعتبر المسائلة من مقوماتها الأساسية. مسائلة الذات والمحيط، الاستفسار الدائم عن الأصل والجذر والمبدأ، قراءة الأفكار والأوضاع والمؤسسات والأشخاص بعين نقدية، المتابعة الدقيقة لمختلف مرحل النمو والانتكاس، التقدم والدوران. إن أية عملية تأسيس تتضمن التدرج...
قراءة الكل
هل بالإمكان تأسيس فكر حقوق إنسان في غياب التاريخية ودون الاعتماد على روحية فكرية تعتبر المسائلة من مقوماتها الأساسية. مسائلة الذات والمحيط، الاستفسار الدائم عن الأصل والجذر والمبدأ، قراءة الأفكار والأوضاع والمؤسسات والأشخاص بعين نقدية، المتابعة الدقيقة لمختلف مرحل النمو والانتكاس، التقدم والدوران. إن أية عملية تأسيس تتضمن التدرج والتراكم، فكرة البناء وعملية البناء، ضرورة امتلاك البعد الضروري اللازم من الوضع البشري والتمتع بتصور متعدد الميادين متفتح على تعددية المواقع.من هنا، وفي كل تساؤل يتعلق بالإنسان والسياسة والفلسفة والتاريخ والمجتمع.. الخ، هناك محاولة بحث عن المقدمات، ورفض للوضعانية وتأكيد على الديالكتيك، تساؤل دائم عن إمكانية إغناء البناء غير المنجز للمبادئ والقيم العالمية المستنبطة من خبرة وعقول الأشخاص والثقافات، باعتبار أن المعطيات البشرية بالضرورة جزئية وغير كاملة.في هذا الإطار تأتي هذه الموسوعة التي هي نتاج جهد جماعي كان وراءه هاجس الفكر النقدي وهاجس التأكيد على التعددية في التصور الذهني للعالم كشرط لبقاء حقوق الإنسان خارج الأيديولوجيا وخارج الانغلاق الدوغمائي. وهي رغبة الجمع بين تراكمات المعرفة والتناول النقدي للمعارف، وأخيراً فرصة تعايش الاختلاف في مشروع واحد في مرحلة تاريخية صعبة ورديئة يعيش فيها المجتمع البشري ليومه وبأحسن الأحوال، لاجترار تصورات الأمس، في شبه غياب للمشروع والمستقبل وساحرية فكرة الدور التاريخي.هذا وإن دخول ثقافة حقوق الإنسان بيوت الناس، (الذي تسعى الموسوعة إليه) وليس فحسب مكتبة النخبة وأرشيف المحامين يعتبر شرطاً أساسياً للخروج من حالة الاستعصاء المتسم باغتيال السياسي وانهيار الأيديولوجيا والتغييب المريع للحلم فيما يسمح بتسرب أشكال غير حصرية للتعصب والانغلاق الشوفيني والطائفي مع بروزٍ متسارع للوجه القبيح للعولمة: صيرورة رأس المال السلطة المطلقة التي تسخر الدول والمجتمعات، تجديد أشكال استعمار البشر للبشر، النبذ المتسارع للأضعف، الانتظار غير المتكافئ للعالم، تلوث البيئة، انتشار أسلحة الدمار الشامل والمخدرات والسلع الغذائية السامة. إن تأصل الغنى الفاحش والفقر الكافر، حروب الفقراء بسلاح الأغنياء، وانتصار المرض على جميع مشاريع التنمية في الجنوب كلها تشكل همّاً بنيوياً للعاملين من أجل حقوق الإنسان. إلا أن حقوق الإنسان تتطلب توفير الحد الأدنى من الوعي للدفاع عنها. كان هذا الطموح الإبداعي هاجس كل قلم شارك في جزئي هذه الموسوعة.وفي هذا الجزء الذي هو الثاني منها، فقد كان التوجه إلى تناول المشكلات الأساسية التي تعترض حركة حقوق الإنسان في الفكر والممارسة، قانونية كانت أم دولانية أم أيديولوجية أم ثقافية اجتماعية-اقتصادية. وعبر نخبة من المفكرين والباحثين المختصين يطمح هذا الجزء لفكفكة مفاصل وضع غير إنساني تزداد فيه انتهاكات حقوق البشر بتواتر مع زيادة وسائل الحماية للأفراد والجماعات. وهو لا يكتفي بتناول الإشكاليات الكبرى والتساؤلات المعيشة في وجودنا المعاصر، وإنما يسعى لكسر حلقة شبه مغلقة تخرج بنا من عصر الحماية غير المتكافئة للأفراد والشعوب والتوزيع غير المتكافئ للثروات والتعامل غير المتساوي في الملفات المتشابهة. هذا وإن حقوق الإنسان ليست قانوناً أحادي التفسير، والعديد من موضوعاتها يتعرض لتفسيرات مختلفة بل متعارضة، وكل مدرسة فكرية تحاول أن تشد نحوها هذه الحقوق عبر قراءتها الخاصة لها. وهناك العديد من الحقوق التي تعتبر بديهية للبعض مرفوضة تماماً من البعض الآخر. أما الممارسات فتفتح نقاشات لا حصر لها حول الدوافع والالتزامات والعلاقة بالمجتمع المشهدي والقدرة على أخذ البعد اللازم من مجرد التوافق مع الرأي العام في قضية محددة.من هنا كانت المحاولة في هذا الجزء القيام بمسيرة معاكسة، أي استقراء الوضع البشري من منظور حقوق إنساني يحاول استلهام الأطروحات الفكرية الكبرى لعصرنا في نطاق الحقوق الإنسانية وقراءة هذه الاتجاهات للمفاهيم الأساسية ذات العلاقة بالحقوق وإعادة قراءة العلاقة بين النظري والتطبيقي، ومخاطر غياب التأمل النقدي واستراتيجيات العمل البعيدة المدى.