دار حقيرة تعصف الريح بجدرانها الطينية القذرة المتعرجة كأمواج بحر ثائر؛ بها حجرات ثلاث، يعلوها القش وقصب الذرة وأعواد الحطب الجافة، مرفق بها حجرة صغيرة دون المترين في اتساعها، ذات نافذة ضئيلة تطل على خلاء كئيب، بها كانون وبعض الأواني الفخارية ملقاة على لوح من الخشب في غير نظام، قد صبغها الكانون باللون الأسود كلون الحائط الذي يحتض...
قراءة الكل
دار حقيرة تعصف الريح بجدرانها الطينية القذرة المتعرجة كأمواج بحر ثائر؛ بها حجرات ثلاث، يعلوها القش وقصب الذرة وأعواد الحطب الجافة، مرفق بها حجرة صغيرة دون المترين في اتساعها، ذات نافذة ضئيلة تطل على خلاء كئيب، بها كانون وبعض الأواني الفخارية ملقاة على لوح من الخشب في غير نظام، قد صبغها الكانون باللون الأسود كلون الحائط الذي يحتضنه، كما يمكنك أن ترى الكثير من أغصان الشجر الجافة وأعواد الحطب، ملقاة بالقرب من الزير ذي اللون المائل إلى الخضرة، بغطائه الخشبي، يعلوه كوب معدني فضي اللون. وما كان لك أن تبصر هذه الأشياء إلا بعد أن أشعلت "إحسان" المصباح المعلق على الحائط، فينبعث نوره الخافت موقظًا تلك الأشياء من سباتها العميق. تبسط "إحسان" يدها اليسرى لتمسك الكوب المعدني بأناملها الرقيقة، بينما تضع ظاهر كفها الأيمن على شفتيها الحمراوين وهي تتثاءب، وما أن تفرغ حتى ترفع الغطاء الخشبي بيدها اليمنى لتملأ الكوب بالماء، وتحكم إغلاق الزير مرة أخرى، ثم تنقل الكوب من يسراها إلى يمناها، وتذكر اسم الله وتشرب، وما أن يسري الماء في جسدها حتى تشعر بالنشوة تغمرها فتزيح وشاحها من فوق رأسها، كاشفة عن شعر شديد السواد كأنه ظلمة حالكة، ذي ضفيرتين طويلتين ضاربتين حتى خصرها الممشوق. تسكب الماء في كفها الأيمن ليفيض على وجهها الغض ووجنتيها النضرتين، وأنفها الدقيق الطرف، وعينيها السوداوين الواسعتين كعيون المها. وما أن انتهت حتى خرجت إلى حيث يجلس الشيخ "علام" متربعًا في منتصف الحجرة فوق سجادة الصلاة؛ وكان لما يرفل فيه من ثياب ناصعة البياض، وخرزات مسبحته البراقة، كأنها حبات من اللؤلؤ يجمعها خيط من الحرير، ولحيته الطويلة الكثة المنبسطة إلى ما يلي نحره، وشعر رأسه الأسود الذي عرف الشيب طريقه إليه منذ عهد غير بعيد، فأضفى عليه من الهيبة والوقار ما يجعل الناظر إليه يظنه للوهلة الأولى كأنه ملك تنزل في الثلث الأخير من الليل، تفصل أنامله بين خرزات مسبحته، بينما تتحرك شفتاه ولسانه بذكر الله في أناة وخشوع، ضاربًا بناظريه إلى السماء. وتأتيه "إحسان" فتجلس بين يديه في هدوء تام، تتأمل تقسيمات وجهه، تنظر إلى جبهته العريضة التي تشع نورًا من أثر السجود، إلى عينيه السوداوين، أنفه الكبير الذي يتناسب مع تقسيمات وجهه، شفتيه الغليظتين، وشاربه الكث الذي يصب في لحيته...