هناك الكثير من المصطلحات التي أبدعت حينما أريد لها ذلك، أو نشأت نتيجة التحديات والظروف المعقّدة الغارقة بسيول الأفكار والرؤى السياسية المتجاذبة، ممّا أضفى العتمة والخفاء على فكر الإنسان؛ لتلفّه في لهواتها فيستمر في دوامة جدلية المعرفة السياسية، كحقل معرفي مرةً، وعلاقة التشريع السياسي الإسلامي بها مرة أخرى؛ طلباً للوقوف أمام التح...
قراءة الكل
هناك الكثير من المصطلحات التي أبدعت حينما أريد لها ذلك، أو نشأت نتيجة التحديات والظروف المعقّدة الغارقة بسيول الأفكار والرؤى السياسية المتجاذبة، ممّا أضفى العتمة والخفاء على فكر الإنسان؛ لتلفّه في لهواتها فيستمر في دوامة جدلية المعرفة السياسية، كحقل معرفي مرةً، وعلاقة التشريع السياسي الإسلامي بها مرة أخرى؛ طلباً للوقوف أمام التحديات المعاصرة، عسى أن يعي أبعاد النظريّة السياسية الإسلاميّة ودورها في دفع الأزمات ومداخل الخروج منها.ويبقى للفكر السياسي الإسلامي خصوصيته التي تجعل دراسته غير متيسرة إلاّ بالاستناد لمنطقه ومرجعياته، دون نفي تأثيرات الواقع عليه، وذلك بالارتكاز إلى قاعدة منهجية، ترى أنّ علاقة الفكر بالواقع علاقة إنتاج، أمّا علاقة الواقع بالفكر فهي علاقة تأثير.وفي ظل الأمواج المتلاطمة من المصطلحات السياسية في أنظمة الحكم برز مصطلح أو نظام له باع تاريخي، قدّر له أن ينمو من جديد، فيغطي الساحة السياسية ويكتسحها، ويحكم قبضته على مقاليد المعترك السياسي فيها، فيسكت قوم وينتقده أخرون.نعم، برزت نظريّة في عالم اليوم من بين مختلف تلك النظريات وفاقتها، وكانت لها المبادرة من عمق ذلك الخلاف والاختلاف، وشقّت طريقها إلى العقول والألباب، وصار يحاكمها كلٌّ من منطلقه ومبادئه الخاصة، وما طفحت به أفكاره، وتلك النظريّة هي نظريّة ولاية الفقيه المطلقة، وامتازت بما تنطوي عليه من إسهامات فقهية وفكرية في آن واحد، إذ إنهما لا ينفكان بل يتلازمان، ففي غمرة تنامي الفكر لا يعود كافيا الاقتصار على الفقه وحده، رغم أن القيمة الحاسمة في تأسيس النظريّة السياسية تبقى أولاً وآخراً للفقه.ولمّا كانت مُحكمة الأركان قوية البنيان ثابتة الجنان وقفت بوجه العواصف العاتية التي تروم النيل منها؛ إما عن قصد أو بغير قصد، فلا يخلو الأمر من غاية وهدف وداع للمخالفة حالها حال كلّ جديد، ولكن اتخذت مخالفتها أكثر من طابع، وأكثر من مجال، والصراع امتدّ من الفكر إلى أرض الواقع حينما تشكّلت دولتها، وصارت تسابق كبرى الدول، وتثبت يوماً بعد آخر هويتها الحقيقية، وتبرز صورتها الواقعية، ولكل ميدان جنوده وأبطاله.وما قام به الأستاذ المحقّق الشيخ (علي رضا بيروزمند) في كتابه الموسوم بـ (النظام العقلاني للحكم دراسة تحليليّة لأسس نظام ولاية الفقيه وآراء النقّاد)، بما يمتلكه من عمق المعرفة الاستدلالية، والخلفية التي أتاحت له القيام بجدل نقدي معمّق للعديد من الشبهات المطروحة بشكل واضح، فبحث عن عقلانية هذا النظام متوسلاً:أولاً: بذكر النظريات المطروحة لأشكال النظام على مائدة البحث، ومناقشتها من خلال الواقع والدليل.وثانياً: طرح الشبهات الموجّهة لهذه النظريّة والردّ عليها.وثالثاً: إثبات عقلانيتها بالدليل النابع من الواقع الذي يعيشه الإنسان المسلم وغيره، بلحاظ صلاحياته ودوره على جميع الأصعدة والمستويات.يبدأ الكاتب علي رضا بيروزمند بالتعريف بعنوان الكتاب، فيتطرّق الى (العقلاني) حيث يقول: هو القيد الأوّل في عنوان هذا الكتاب، يُثبت أنّ دراستنا في هذه السلسلة من البحوث تدور حول الإثبات العقلي لأحقيّة النظام السياسي الذي يحكم مجتمعنا بعد انتصار الثورة الإسلاميّة، ولكي يتمّ إثبات عقلانية نظام الولاية يتحتّم علينا بحث كيفية بناء السلطة وتوزيعها في المجتمع الديني، وبيان مكامن الاختلاف عن المجتمعات غير الدينيّة.أمّا المفردة الثانية التي يبحثها الكاتب فهي (النظام)؛ الذي هو بيان أنّ المفهوم السائد لـ «ولاية الفقيه المطلقة» في نظريّة الحكومة الإسلاميّة لا يعني حكم شخصٍ واحد على جميع مرافق النظام، كما تصوّر بعض المنظّرين، بل لا توجد ملازمة بين هذه النظريّة وما تصوّره هؤلاء، بل إنّ في النظام الإسلامي ــ مع وجود المنظومة التي تعمل على اتخاذ القرارات في المجتمع ــ هناك شخص يقف على قمّة هذا الهرم يتمتّع بصلاحيات خاصّة بوصفه الولي الفقيه.فاعتبر الكاتب ولاية الفقيه من الأبحاث الهامّة والمفصلية في سلسلة أبحاث فلسفة العلوم السياسية الإسلاميّة، التي أضحت في الآونة الأخيرة مداراً للحوار والجدل الحديث، ومع بلوغ الأذهان مراحل حسّاسة أصبحت الأرضية ممهّدة لطرح الآراء الكامنة في هذه المسألة، فإنّ الفكر البشري من القدرة والحدّة بدرجةٍ إن أراد التعمّق في مسألةٍ ما تجده يجول في زواياها باحثاً متأمّلاً في جميع أبعادها ودقائقها ومراميها، فكم هو حريٌّ بنا وأجدى أن نوظّف هذه الموهبة الربانية في تمحيص الموضوعات الأساسية، ووضعها في إطارها الصحيح.وعليه، فالبحث الرئيس يتلخّص في الحاكم الديني، أتجب له الولاية أم لا؟ وهل يجب أن يكون فقيهاً أم لا؟ فإن كان الجواب بالإيجاب، فما هي صلاحياته، وكيف يتمّ تحديدها؟ وما هو دور الناس في النظام السياسي القائم على ولاية الفقيه؟ فهل دور الناس هو التبعية فقط، أم أنّ هناك تأثيراً لآرائهم؟ وكيف يمكن الجمع بين الأنشطة الجماهيرية وإطلاق يد الولي الفقيه والقول بأنّ الصلاحيات الثابتة له مطلقة؟ ولو عدنا إلى أصل المطلب لنتساءل هل هناك تنافٍ بين الجمهورية الإسلاميّة وبين ولاية الفقيه المطلقة، أم لا؟وبكلمةٍ واحدة: كيف يمكن إثبات عقلانية وشرعيّة نظام ولاية الفقيه؟ وإذا استطعنا إثباتها، هل لنا أن ندّعي بأنّ الإسلام قد بشّر بنظام سياسي جديد للإنسانيّة، يتبع منهجاً جديداً في توزيع السلطات (ضمن نظام سياسي يحتوي على أرقى الأشكال في إدارة المجتمع، وأكثرها بعداً عن آفات سائر الأنظمة السياسية الأخرى)، أم لا؟عمد الكتاب الى بحث نظريّة الولاية المطلقة للفقيه من الناحية العقليّة، بَيْدَ أنّه لم يدخل في إثبات عقلانية أركان هذه النظرية مباشرة، بل عمد إلى بيان معنى الولاية على المجتمع بلحاظ الموضوع أوّلاً، ثمّ إثبات ضرورة الولاية الدينيّة على المجتمع، بعدها ولج في صلب البحث؛ ليتمّ تمحيص ودراسة الأسس والأصول الموضوعة للكلام بشكلٍ صحيح.