يشيّد كتاب «عوالم سردية» للناقد والباحث نجيب العوفي، لبنة أخرى جديدة في صرح النقد العربي ذي الأفق الجدلي التنويري. إن صدور هذا الكتاب، بقد ما يعزّز نظائره وأشباهه على امتداد الوطن العربي، يؤكد في الآن ذاته رسوخ هذا الاتجاه النقدي، وقابليته المتجدّدة للاستمرار والتطوّر، ومواصلة إثراء الحياة الأدبية والفكرية برؤية واقعية جدلية للك...
قراءة الكل
يشيّد كتاب «عوالم سردية» للناقد والباحث نجيب العوفي، لبنة أخرى جديدة في صرح النقد العربي ذي الأفق الجدلي التنويري. إن صدور هذا الكتاب، بقد ما يعزّز نظائره وأشباهه على امتداد الوطن العربي، يؤكد في الآن ذاته رسوخ هذا الاتجاه النقدي، وقابليته المتجدّدة للاستمرار والتطوّر، ومواصلة إثراء الحياة الأدبية والفكرية برؤية واقعية جدلية للكائنات والأشياء، وللظواهر والنصوص.ويعتبر النقد جدليا لانشغاله العميق عبر التحليل والقراءة، بالكشف عن علاقات التفاعل ومستوياته بين الشكل الفني للأثر الأدبي، والدلالة الاجتماعية الكامنة فيه ونمط الوعي المشخّص تخيليا عبره، وبين موقع الكاتب وموقفه تجاه قضايا اللحظة التي يحياها وما تطرحه من أسئلة وتحدّيات.إن قراءة النصوص والآثار الأدبية تنجز هنا في ضوء سياقاتها الواقعية وما تفرزه من رؤى جمالية وإيديولوجية، مع التركيز على إبراز الجدلية المفترضة بين المضمون النصي وكوّنات الصياغة الفنيّة والجمالية.هكذا سيمترَس النقد، تنظيرا وتطبيقا، من حيث هو موقف والتزام وترجمة أدبية وفكرية لاقتناعات الناقد وخطابات الثورة والتحرر بوجه عام وأساس. ومن هنا يأتي الطابع التنويري لهذا النقد، طابع التأكيد على الوظيفة الاجتماعية والتاريخية للأدب، وعلى الوظيفة التفسيرية والتقومية للنقد. فالتّنوير ضمن هذا السياق يحيل على مقاصد الناقد المعلنة أو الضمنية في أن يكون الخطاب النقدي قناة من قنوات التثقيف، وبناءِ وعي القارئ والمتلقّي بأهمية البعد الأدبي والجمالي في الإثراء الروحي، وتعميق الرغبة في التحرر من التقاليد الرثّة، والانتصار للمعرفة وثقافة التقدم. وهذا معناه، أن النقد الأدبي يصبح لذلك أحد مكوّنات الخطاب الاجتماعي والإيديولوجي المنصت لإيقاع مرحلته.لقد تبلورت أسس النقد الجدلي التنويري ورؤاه وطرائقه في المقاربة والتأويل، فيما بين منتصف الأربعينيات ومنتصف الستينيات. وتم ذلك على أيدي الرواد من أمثال محمد مندور ولويس عوض وعمر فاخوري ورئيف خوري وحسين مروة ومحمود أمين ومحمد شكري عياد وغالي شكري.إلا أن هذا التبلور ما فتئ إلى اليوم يزداد ثراء وتطورا، واجتذاباً للنقاد والدارسين والقراء في أقطار عربية مختلفة، وبانتماءات جيلية متباينة، وبتفتح أعمق من ذي قبل على المعارف النقدية المعاصرة، وبخاصة كما تتجلى في الأبحاث الأسلوبية والسيميائية وشعريات الخطاب... وهذه في الحقيقة هي الوضعية الاعتبارية التي تتحدد بها مكانة كتاب «عوالم سردية» وقيمته، وذلك في الواقع هو الفضاء النقدي الذي يتحرّك فيه حركة التعديل وإثراء وإضافة. فليست الواقعية الجدلية في هذا الكتاب بعقيدة جامدة يتم إسقاطها على الآثار الأدبية وركوبها مطية للتعسف في الفهم والتأويل. إنها بالأحرى رؤية ثاقبة تلهم، وآلية اشتغال خلاّقة ومبدعة، ومنهجية متحرّكة ومتفاعلة. إن ما يتمتّع به الناقد والباحث نجيب العوفي من ثقافة أدبية خصبة ومتنوعة المرجعيات، وذاكرة شفّافة يقظة ومتّقدة، وما له من حاسة نقدية صقلها بإدمان الإصغاء الرهيف لوجيب النصوص وسرائرها، وقدرة على إجادة التعبير عما تسرّ إليه به الآثار الأدبية مما يلامس الوجدان والأذهان، أو مما يستدعي الانتقاد والتقويم، كل ذلك أضفى على الواقعية الجدلية في «»عوالم سردية» مزيدا من الحيوية والإبداعية، وتوسيع مدارات التحليل والتأويل.فذاتية الناقد التي تعشق الأدب، وحدسه المثقف، كلاهما أكيد الحضور والإنتاحية.لقد كان نجيب العوفي أحد رواد النقد الجدلي التنويري في الأدب المغربي المعاصر منذ أواخر الستينيات تقريبا حيث بدأ النشر، وعلى امتداد السبعينيات حيث كرّس وضعيته باعتباره فاعلا عضويا في الحقل الأدبي بالمغرب، ومنذئذ وهو يواصل عطاءاته الأدبية في سياق هذ ا الاختيار، بروح يطبعها الاجتهاد والجرأة في إبداء الرأي والتصنيف والحكم، والانتظام في المواكبة النقدية لما يستجد في عالمي الأدب والنقد من نصوص وآثار وظواهر وأسئلة...