نبذة النيل والفرات:إن انتشار الفلسفة اليونانية في شرقي البحر الأبيض المتوسط، أي في منطقة ظهور الأديان السماوية الكبرى اليهودية والمسيحية والإسلام جعل من الضروري أن تتم المواجهة المباشرة بين الفلسفة وهذه الأديان. ومن ثم فإن التقاء الفلسفة بالدين كان لا بد من أن يتم وأن يتخذ صورة التوفيق بين النقل والعقل، والتعايش الذي لا مفر منه ...
قراءة الكل
نبذة النيل والفرات:إن انتشار الفلسفة اليونانية في شرقي البحر الأبيض المتوسط، أي في منطقة ظهور الأديان السماوية الكبرى اليهودية والمسيحية والإسلام جعل من الضروري أن تتم المواجهة المباشرة بين الفلسفة وهذه الأديان. ومن ثم فإن التقاء الفلسفة بالدين كان لا بد من أن يتم وأن يتخذ صورة التوفيق بين النقل والعقل، والتعايش الذي لا مفر منه بين مسلمات العقل ومسلمات الوحي والعقيدة، وبهذه الصورة ظهرت الفلسفة الإسلامية التي تعتبر محاولة للتوفيق بين الفلسفة اليونانية في صورتها المتأخرة وقضايا الإسلام الأساسية، غير أن هذه المحاولات لم تمر بسلام، فقد حدثت ردود فعل مختلفة، وبدرجات متفاوتة، فمثلاً تصدى الإمام الغزالي للفلسفة وكفّر منتحليها في مسائل معينة؛ ولكنه ارتضى منها بعض، بينما نجد أن ابن تيمية ومدرسته ومن هم على شاكلته من المتشددين في التمسك بالصورة الأولى المخلصة للإسلام عند بدء ظهوره؛ يرفضون كل دعاوى الفلسفة والمنطق.على أن فريقاً ثالثاً من المؤمنين ممن نبذوا أسلوب اللجاج العقلي ومضوا شوطاً بعيداً في طريق الإيمان الخالص والحب الصادق والنشوة الحَمِسَة سلوا مسلك الزهد والتقشف خوفاً على العقيدة، وهم يقولون بالمعرفة المباشرة للحقائق الدينية أي بالذوق أو بالحدس، وهو ضرب من الاتصال أو الاحتكاك المباشر بالجهد الخلاق، تتم خلاله المشاهدة العيانية لما وراء الحس من ذوات مجردة، وعندما ذاعت قضايا الفلسفة، واعتنقها المسلمون، كان على أساطين حركة التصوف الإسلامي أن يفسحوا لها مجالاً في مواقفهم المذهبية، وهكذا ظهر تيار التصوف الفلسفي عند ابن سينا والسهروردي وغيرهم من المتصوفة الكبار. وعلى هذا فإنه يمكن القول بأن التراث العقلي والروحي عند المسلمين تنحصر دراسته في فروع ثلاث: علم الكلام، الفلسفة البحتة، أخيراً التصوف بأنواعه.والكتاب الذي نقلب صفحاته يتناول هذا التراث العقلي الإسلامي في حملته. وهو يشتمل أولاً على دراسة موجزة للمقدمات العامة للفلسفة الإسلامية، ثم نشأة علم الكلام ومدارسه، ليقدم من ثم دراسة عامة للتصوف الإسلامي منتقلاً بعدها إلى جزء تم فيه الاقتصار على المواقف الفلسفية البحتة في الإسلام.ويقول المؤلف بأنه قد يكون قد أغفل في عمله هذا تفصيلات أو شخصيات لها قدر من الأهمية، لكنه أراد إعطاء القارئ فكرة عامة تغطي هذا المجال حتى تتحدد أبعاده الرئيسية بحيث تكون هذه الدراسة حلقة في سلسلة تاريخ الفكر الفلسفي العام الذي سبق للمؤلف إخراج منها كتابين في "الفلسفة اليونانية" وكتاباً آخر في "الفلسفة الحديثة".وتجدر الإشارة إلى أن الكتاب الذي بين القارئ هو بطبعة معدلة من طبعة للمؤلف سابقة إذ جرى فيها إضافة جديدة على مادة الكتاب، ولا سيما في الفصل الخاص بالفارابي، حيث تمّ عرض لدراسة "المدينة الفاضلة" عنده تفصيلاً، كما تم عقد مقارنات مستفيضة بين آراء كل من الفارابي وأفلاطون بهذا الصدد، هذا ولم تخل الفصول الأخرى في الكتاب من إضافات أو تنقيحات أو استدراكات على الطبعة الأولى.