لم يقرأ احد الحزن العراقي جيداً، ولم يضع أحد يده على الجانب الإنساني لما خلفته الحروب، تلك التفاصيل الصغيرة، الكبيرة والكثيرة، التي انشغل عنها الآخرون بالديون والحدود والحقوق السياسية، بينما لم يتذكر أحد معنى أن تمنع أسرة من البكاء على قتلاها... ونحو ألف وثلاثمائة كيلو متر كانت ولا تزال مفتوحة على ذاكرة الرؤوس المبعثرة بين الودي...
قراءة الكل
لم يقرأ احد الحزن العراقي جيداً، ولم يضع أحد يده على الجانب الإنساني لما خلفته الحروب، تلك التفاصيل الصغيرة، الكبيرة والكثيرة، التي انشغل عنها الآخرون بالديون والحدود والحقوق السياسية، بينما لم يتذكر أحد معنى أن تمنع أسرة من البكاء على قتلاها... ونحو ألف وثلاثمائة كيلو متر كانت ولا تزال مفتوحة على ذاكرة الرؤوس المبعثرة بين الوديان وعلى ضفاف الأنهر، بينما الخطاب القاتل والتافه يطحن أرواح العراقيين ويسمم لقمتهم بـ (صور من المعركة) وتلك الأسماء التي كرهوها لفرط ما اصطنعت بدم الأبرياء (البسيتين، سيف سعد، الفاو، شلامجة، يوم الأيام، أم المعارك، كل عراقي بعثي وإن لم ينتم... والموت المجاني والمدن الحروقة...)لكن هذا ليس هو محور الكاتب الأساس في كتابته تلك التي اختزنها طيلة ثلاثين عاماً باحثاً عن فكرة مناسبة عن السؤال: ما العراق؟ فهو يرى صعوبة الإجابة إذ أن هناك حقائق كثيرة طمست عبر التاريخ، مراحل كاملة حذفت من دائرة الضوء إلى غياهب العتمة وما وصل من الأحداث الرئيسة، أمر شائع لا مهرب منه، ولكن التاريخ ليس أحداثاً ذات حيز مكاني وزماني محددين فحسب؛ بل هو تفاصيل وعوامل ومسببات وأهواء وتوجهات بطيئة وخفية تصنع الحدث وتحيله حسب ولا تزال هذه الإشكالية الأخلاقية، وكما يرى الكاتب، قائمة في رفض الآخر وإنكاره زماناً ومكاناً وفعلاَ ضمن التفكير الضيق نفسه، والحساسية العمياء التي حكمت المجتمع العراقي مئات السنوات مرت عقود والعالم لا يعرف العراقيين جيداً، لا يعرف لهجاتهم وأزياءهم وأسماءهم، مناطقهم وإبداعاتهم، وقدرتهم على الحياة، وصناعة جمالياتها، لا يعرف لهجاتهم وأزياءهم وأسماءهم، مناطقهم وإبداعاتهم، وقدرتهم على الحياة، وصناعة جمالياتها، لا يعرف فنونهم، فنون الفرات الأوسط وفنون أعالي الفرات، فنون الأهوار وقرى شط العرب، فنون الجبال والبداوة، فنون عمارة البيت، والأهم أنهم لا يعرفون التعددية الجميلة التي تفتح أفق الألوان على قوس قزح إجتماعي ثابت ونادر ونموذجي في تأكيد حضارية العراق وقدره الأزلي في أن يكون هكذا وليس غير...إن هذه الحقيقة يعرفها أبناء العراق وهم ضحاياه! يعرفون أن أباهم يخبئ قسوة ليس لها مثيل، ولذلك هم حكماء في التبرير إلى درجة تبسيط المأساة لكي لا تبدو الحياة مستحيلة!...لكن النص الذي سعى الكاتب وراءه سوف يفضح تلك الإستحالة وسوف يؤكدها عبر جميع أزمنة ما بين النهرين... النص القديم والنص الحديث، النص السياسي والنص المحسوب على الدين، نص المجتمع ونص الحاكم، نصوص الطغاة ونصوص الفقراء، نصوص الجلادين ونصوص الضحايا، بل ونصوص الأغاني والتحيات والعقب والسلوك اليومي والصورة أيضاً لكل ذلك إنما هو قراءة في دلالة تلك النصوص السياسية والثقافية العراقية في محاولة لتفسيرها، وإلقاء الضوء عليها بصفتها تأسيساً مهماً في حياة المجتمع، بل في تبرير سلب الحياة من المجتمع العراقي.