"ترنح النسيم الغربي جذلاً تفوح منه رائحة صمغ الصنوبر ولهان النسيان العتيق وأخذ يداعب عنق مروان بإلفة وشعور بالطمأنينة، فتارة ثيب إلى شحمة أذنه يلعق زغبها الطريق، وطوراً يتأرجح بأهداب العينين متنقلاً بين أحلام وردية متثائبة زرعتها هناك أماني شباب متحضر وبين أحاسيس بألم دافئ عذب يسري في تقاطيع الجبهة فيشغفها حتى تكاد تضيء في عتمة ...
قراءة الكل
"ترنح النسيم الغربي جذلاً تفوح منه رائحة صمغ الصنوبر ولهان النسيان العتيق وأخذ يداعب عنق مروان بإلفة وشعور بالطمأنينة، فتارة ثيب إلى شحمة أذنه يلعق زغبها الطريق، وطوراً يتأرجح بأهداب العينين متنقلاً بين أحلام وردية متثائبة زرعتها هناك أماني شباب متحضر وبين أحاسيس بألم دافئ عذب يسري في تقاطيع الجبهة فيشغفها حتى تكاد تضيء في عتمة ذلك اليوم الخريفي من شهر أيلول.ما باله مروان قد أطفأ أنوار مشرقة بيته وأندس في الظلام المتعانق مع ذلك الضباب الأبيض الخرافي المنبعث من أعماق الوادي كأنه عرائس هيكل يوناني قديم تتلوى بأجسادها البلورية فتتلوى معها عشرات الرغبات الدفينة ثم تداعب أطراف الأنف وبشرة الذراعين فيشعر مروان وكأنه بحالة وجد وهيام تجذبه غيبوبة صوفية لتذريه خارج أطر المحسوس فتصيّره أنفاساً آلهيةً تجري في عروق هذا الكون حنيناً نابضاً بالأشواق المتوهجة وألق المحار الناعس.كانت موسيقى القوافي الصامتة تضج في أعماقه... صوت كحميّا خمرة دير جبلي يضوي بين حنايا ضلوعه، كان يريد أن يضع يديه على حاجز الشرفة ويقف وقفة قائد مهيب ليلقي خطبة مدوية تندهش لها أشباح الظلام... كان يحسّ وكأنه إذا نطلق في عتمة ذلك الليل سيجلجل صوته ليصل إلى أذن كل كائن حيّ... ولكن ورغم هذا الفيض في المشاعر لم يتخذ مروان أية مبادرة إيجابية، فلا هو أقترب من حاجز الشرفة ليمسكه بيديه ويتأهب لوقفته الخطابية وينطلق، ولا هو فتح ذراعيه هاشاً بوجه عرائسه الضبابية البلّورية الجسد ليحتضنها إحتضان صوفي فني في لذاته النرفانية، ولا هو تعمد ان يسكب موسيقى قوافيه الصامت في قوالب الأوزان لتغدو أنسيّة الصداح.فقد كان يشبك يديه على صدره ويزرع الشرفة هيئة وذهاباً محملقاً في الفراغ محدقاً في المجهول، ما باله نسي أو تناسى أحداث البارحة الصاخبة كي لا يعرج عليها ولو بلمحة خاطفة من أحياء الذكرى وتقمص الماضي القريب هل نسي حفلة الأمس في بيت ليلى في الروشة حيث فتحت الصالونات الثلاثة على بعضها وسالت الأضواء شلالات بنفسجية من كريستال القريات المتأرجحة وتعلقت بالزوجة فوق الأكتاف العارية... لتنقلت بعيداً في مروج الأنغام وبساتين الإيقاع الصاخب.تنفتح الرواية على هذا المشهد الذي يبرز من خلاله الكاتب الشخصيات المحوريتان ليلى ومروان ثم لتمضي معه وكقارئ عبر مسافة زمنية ومكانية أستغرقتها أحداث قصة عاطفية جمعت بين ليلى ومروان، حيث تلعب الأقدار لعبتها فيتغرقان ويتزوج كلٌّ منهما، ولتبرز مع هذا الزواج شخصيتان جديدتان هما منى ونبيل.وتنساب الأحداث على وقع غربة وحرب وصراع... غربة لمروان رمته بعيداً عن وطنه لبنان ليتابع دراسته في كلية الطب في خضم أحداث حرب أهلية اجتاحت هذا الوطن، وليتأجج في داخله صراع، يبرزه الكاتب من خلال رؤية فلسفية لمعاني الحب والجسد، الرغبة الروحية والرغبة الجسدية، لينتهي المطاف بأن يلقى نبيل ومنى حتفهما بينما تدخل ليلى في غيبوبة كل ذلك أثر حادث سيارة، ولتعود ليلى من غيبوبتها لتجد أن مروان ما زال في إنتظارها.