الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.. أما بعد:فهذه أسطر كتبتها قبيل هذا الشهر المبارك: شهر رمضان، الذي أنزل فيه القرآن، أوجهها إلى أئمة المساجد خاصة، وإلى من أراد الإفادة منها عامة، حول موضوع كان يشغلني مذ سنين عديدة، ألا وهو الوقف والابتداء في تلاوة الكتاب العزيز، وقبل الشروع في المقصود أقدم بأربع مقدمات:الأولى: ...
قراءة الكل
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.. أما بعد:فهذه أسطر كتبتها قبيل هذا الشهر المبارك: شهر رمضان، الذي أنزل فيه القرآن، أوجهها إلى أئمة المساجد خاصة، وإلى من أراد الإفادة منها عامة، حول موضوع كان يشغلني مذ سنين عديدة، ألا وهو الوقف والابتداء في تلاوة الكتاب العزيز، وقبل الشروع في المقصود أقدم بأربع مقدمات:الأولى: أن من نافلة القول التأكيدَ على شرف علم الوقف والابتداء، وارتباطه بتأويل كتاب الله تعالى، فهما وإفهاما، ولذا اهتم العلماء به اهتماما بليغا، وألفوا فيه المؤلفات في أوائل مؤلفات التراث الإسلامي[1]، وكتبوا فيه أبوابا في كتب التجويد، وقل أن يخلو كتاب تفسير من المطولات من الكلام عن الوقف والابتداء، بل أشار ابن الجزري إلى اشتراط كثير من الأئمة على المجيز ألا يجيز من لا يعرف الوقف والابتداء[2].ولو لم يكن من الحضّ عليه من كلام الأئمة إلا ما قاله ابن النحاس رحمه الله لكفى، فقد قال: "قد صار في معرفة الوقف والاستئناف التفريقُ بين المعاني، فينبغي لمن قرأ القرآن أن يتفهم ما يقرأه، ويشغل قلبه به، ويتفقد القطع والاستئناف، ويحرص على أن يُفهِم المستمعين في الصلاة وغيرها، وأن يكون وقفه عند كلام مستغن أو شبيه، وأن يكون ابتداؤه حسنًا"[3]، وقال علم الدين السخاوي رحمه الله: "ففي معرفة الوقف والابتداء الذي دوّنه العلماء تبيينُ معاني القرآن العظيم، وتعريف مقاصده، وإظهار فوائده، وبه يتهيأ الغوص على درره وفرائده"[4].الثانية: أن فروع هذا العلم كثيرة، فقد تكلم العلماء فيه عن أنواع الوقف، من التام والحسن والقبيح، وكذلك الوقف على رؤوس الآي والخلاف فيه، ونحو ذلك.إلا أن هذه الأحرف لن تتطرق لهذه التقسيمات وهذه التفصيلات، بل الكلام متجه إلى ما يهم الإمام من قواعد جامعات، أو تنبيهات نافعات، والداعي إليها هو ما يلاحظ من خلوّ قراءة كثير من الأئمة من الاهتمام بهذا الموضوع الشريف، بل والزهد فيه أكبر زهد، ففقدت التلاوة عند هؤلاء جمالها، وفارق الأداءَ رونقُه وبهاؤه، وقُطع الكلام المتصل، ووُقِف على ما يؤدي معنى قبيحا، وبدئ من حيث ما يُفهِم باطلا، وربما شعر ببعض ذلك فاعله، ولم يشعر بأكثره، ولا يراعى في ذلك إلا النفس، فيقف حيث انتهى النفس، ويبدأ مما يلي ذلك.وقد تناسى هؤلاء - أنار الله بصائرهم - أن حالي تالي القرآن مع السامع كحال الدليل مع المستدلّ، فالمستدلّ يتبع أثر دليله حيثما توجه، ويقف حيث وقف، والتالي لكتاب الله كذلك، فهو بصوته وأدائه ووقوفه يفسر القرآن، ويستخرج المعاني، ويلفت النظر أيان اقتضى الأمر؛ فإذا كان ذلك كذلك فأنّى لنفوس تعطشت إلى كتاب الله في رمضان عطش الظمآن في يوم صائف إلى الماء القراح، ولربما اقترفت هجرا طويلا عن هذا الكتاب الكريم، أنّى لها أن تتدبر كتاب ربها حق التدبر، وتتعقل حق التعقل، والقارئ لا يعينها على ذلك؟!الثالثة: أن الوقف والابتداء علم وثيق العلاقة بعلم التفسير، وعلم النحو، وعلم البلاغة، فلا يمكن أن يفقه الوقوف حق فقهها من لا يعي مفاتيح هذه العلوم وأسسها، ولكن المأمور المشروع يأتي المسلم منه بما استطاع، وما لا يدرك كله لا يترك كله، وهذا العلم كلما أدار التالي كتاب ربه ذهنه إليه أكثر، وكانت ملازمته له أطول؛ كانت فائدته أتم، وإدراك قواعده أسرع وأحسن.وسأحاول جاهدا إن شاء الله تسهيل ما سأذكره من قواعد وملاحظات، ويأخُذُ كلٌّ منها ما تيسر له.الرابعة: بلا شك أنه يغتفر في القراءة في صلاة القيام ما لا يغتفر في قراءة التعليم والتعلم ونحوها، فقراءة القيام يغلب عليها الحدر، فيتجاوز فيها في بعض الوقوف التي لا تحيل المعنى وغير القبيحة؛ ذلك ليعلم أن ما ينبه إلى وصله أو الوقف عنده ليس على درجة واحدة من حيث اللزوم، وسيأتي بيان ذلك تفصيليا إن شاء الله.والكلام في الوقف والابتداء فيما يهم الإمام يمكن أن يجعل على قسمين:القسم الأول: الوقف قبل الركوع، والابتداء بعد الفاتحة من الركعة التالية في نفس اليوم أو من الغد، وهو المسمى بـ (قطع القراءة)، وهذا يعني اختيار الإمام للوقف المناسب على رأس آية قبل الركوع، والابتداء بعد ذلك، كأن يقطع القراءة في الركعة الأولى عند نهاية الآية السادسة عشرة من سورة البقرة، ثم يستأنف في الركعة الثانية من الآية السابعة عشرة (مثلهم كمثل الذي استوقد نارا) ويقف عند نهاية الآية الرابعة والعشرين من السورة ذاتها ﴿ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 24]، وهكذا.وليس المعنيّ بذلك الخلاف في الوقف على رؤوس الآي ووصل بعضها ببعض عند شدة تعلق المعنى، فليس هذا موضع الكلام عليه.القسم الثاني: الوقف والابتداء وسط الآية الواحدة، كأن يقرأ قوله تعالى ﴿ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ﴾ [البقرة: 17] ثم يقف هنا لانقطاع النفس، ثم يعيد ﴿ فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ ﴾ [البقرة: 17]، أو أن يقف اختيارا؛ كأن يقرأ قوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ﴾ [البقرة: 275]، ثم يقف ثم يكمل: ﴿ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ﴾ [البقرة: 275].