"وفي بعض الأحيان، يمسك الكتاب، يقرأ عنوانه ومؤلفه، ولكن في أحيان أخرى، كان يتصفح بعضها، ثم يتركها ليأخذ كتاباً آخر. كان يود في نفسه، أن يقرأ كل هذه الكتب، يسكبها في عينيه دفعة واحدة، يملأ رأسه بعناوينها وكلماتها، يود لو أنه يذوب بين حروفها، ليظل هناك مجرد فارزة صغيرة، همزة أو حرفاً سرياً ينتقل ما بين السطور، يسير على خطوط السطور...
قراءة الكل
"وفي بعض الأحيان، يمسك الكتاب، يقرأ عنوانه ومؤلفه، ولكن في أحيان أخرى، كان يتصفح بعضها، ثم يتركها ليأخذ كتاباً آخر. كان يود في نفسه، أن يقرأ كل هذه الكتب، يسكبها في عينيه دفعة واحدة، يملأ رأسه بعناوينها وكلماتها، يود لو أنه يذوب بين حروفها، ليظل هناك مجرد فارزة صغيرة، همزة أو حرفاً سرياً ينتقل ما بين السطور، يسير على خطوط السطور كأنما يسير فوق حبل يفصله عن هوة الواقع العميقة المظلمة، كم كان يود أن يسير ما بين هذه الهوة... هوة القبر وما بين تلك السماء.. يسير بتوازن، يسير الى الأبد... وحين يرفع عينيه إلى الأعلى لا تطالعه سوى سماء زرقاء صافية تبدو له قريبة وبعيدة في الوقت ذاته. فجأة هزه صوت صاحب المكتبة: هل تفهم ما تقوله هذه الكتب... أيها المتشرد. رفع "المتواري" عينيه الحادتين من خلال حاجبيه الهدلة: نعم أفهم كل شيء...عجيب! قال صاحب المكتبة مستهزئاً: إذاً ماذا تقول هذه الكتب!؟ قال المتواري بينما هو يعيد الكتب إلى أماكنها: كل الكتب تقول كلاماً واحداً...أيها الإنسان كن إنساناً. ثم مضى بخطاه الوتيدة، تاركاً صاحب المكتبة والذهول يطبق على فمه ويحبس لسانه، ظل صاحب المكتبة يتابع الشيخ، كأنما يريد أن يتأكد من آدمية الشيخ، ثم خرج صوته من جوفه: هذا درويش...هذا حكيم، كم كنت أحمقاً.. حقاً كل الكتب تقول ذلك. عندما يتعب "المتواري" يدخل الى أقرب مسجد، وحينما ينتهي وقت الصلاة، ويفرغ الرجال من صلاتهم، ويخرجون الواحد تلو الآخر، يظل وحيداً مطروحاً على السجاد...يظل هكذا مطروحاً حتى يغلبه النعاس وينام نوماً طويلاً، إذا لم يزعجه إمام المسجد ويطرده، ينام أحياناً نهاراً وليلة، ينتقل خلالها إلى عالم آخر، يعود أحياناً إلى أيام المطاردات والتنقل مع صديقه الدوار العجوز بين الوديان والجبال الوعرة، وفي صحراء قاحلة حيواتها لا تعرف الماء، أو في أهوار مظللة بنبات البردي والقصب، ووسط خفق أجنحة طيور الماء وأصواتها... لم يبك "المتواري" كثيراً في حياته، وإن كانت قاسية وصعبة، فقد فيها اصله وتاريخه وأتباعه المخلصين. لكن كلما كان ينظر في صورة "غريب مهدي" تزحف على عينيه غلالة من الدموع ويجهش بالبكاء ويتساءل احياناً: أكان من المعقول أن يكون "غريب مهدي" ولدي!؟ وسرعان ما يتردد ليقول: لكنني غير متأكد...إنه فقط يشبهني...ولكن روحي هذه تعذبني، كأنما تشعر به...هذا القلب يخفق لرؤية صورته، عيناي كأنما تريدان أن تقفزا لتلصقا بها...آه كم أنتم بعيدون عنا يا أهل القبور وكم أنتم قريبون، تفصلنا عنكم غلالة من الدموع ويحول بيننا جدار من الوهم...جدار لا يتزحزح، برزخ غريب لا تستطيع المخيلة أن ترسمه، كيف تعيشون...آه أيها الأموات أنا قريب منكم، سأكون ضيفاً ثقيلاً، لأعرف كل شيء...لا شيء حقيقياً في هذه الدنيا الا ما نكتشفه في القبور".وتبقى حكاية الثائر الذي يجري وراء مبادئه ذات زخم وذات عبق عطر يزكي الأنفاس. انها حكاية المتواري المطارد الذي ظل يحلم بحياة مستقرة في بلاده الا أنه مات دون تحقيق حلمه هذا. مطاردات وبطولات وأحداث يتدخل من خلالها خيال الكاتب ليجعل من الرواية مشهداً حياً بشخوصه وأماكنه وأشيائه. وتمضي الرواية ويموت المتواري، هكذا أراد له الروائي، كما أراد له أن يعيش بعد موته من خلف الحياة ليكون الأداة التي تعبر عن عالم الحياة كما عالم الموت بالنسبة لشخص فقد في حياته الحياة.انسحب الجلادون، تاركين الأجساد مكومة فوق بعضها، في زاوية الزنزانة تئن بخفوت، جمعتها الآلام والخوف الفطري، هكذا.. تصارعوا في سبيل النجاة من الضربات المميتة، كصراع من أجل البقاء، وشيئاً فشيئاً بدأوا يزحفون إلى أمكنتهم للنوم والأحلام والتحرر من الأوجاع، أو التلذذ بآلام تنبض بهدوء.. آلام لا يمكن أن تحطم الجماجم وتكسر الأضلاع، آلام يمكن أن تسير معهم إلى الكوابيس والأحلام، التي اعتادوا عوالمها الغريبة.. آلام الوتيرة الواحدة، آلام لا يخشونها اعتادوا صليلها مثل آلام الأسنان والصداع والجوع والفقر والعوز والامتهان والتعب والضياع، تلك هي آلام السكون، التي يصبر المرء عليها ويتحملها.. وترافقه العمر كله كثل ظله ومثل قدره.