يشهد الكثير من المنتديات والدوريات العلمية، منذ فترة، نقاشاً متميزاً وجديداً حول مناهج العلم والتحول التدريجي الذي تشهده مراكز البحث العلمي، أو أدبياتها بكلام أدق، عن مناهج البحث الكلاسيكية باتجاه آفاق جديدة تخالف ما هو شائع وتقليدي "ومعروف علمياً". يستمد هذا التحول جذوره الحديثة من موقف كارل بوبر الراديكالي الذي عرض له في كتابي...
قراءة الكل
يشهد الكثير من المنتديات والدوريات العلمية، منذ فترة، نقاشاً متميزاً وجديداً حول مناهج العلم والتحول التدريجي الذي تشهده مراكز البحث العلمي، أو أدبياتها بكلام أدق، عن مناهج البحث الكلاسيكية باتجاه آفاق جديدة تخالف ما هو شائع وتقليدي "ومعروف علمياً". يستمد هذا التحول جذوره الحديثة من موقف كارل بوبر الراديكالي الذي عرض له في كتابيه "بؤس التاريخانية" و"منطق الاكتشاف العلمي". كما أن آراء بوبر نفسها في العلم وقوانينه واليقين والمطلق وغيرها تعود في الكثير منها إلى إسهامات أساسية بدأت من مطلع القرن العشرين في أعمال أرنست ماح و أ. أينشتين ووايتهد ثم مع مناطقة "حلقة فيينا" إلى أعمال أخرى عملية وفلسفية وأدبية أحياناً. مع ذلك، فإن إسهام بوبر الأساسي والإضافي والمثير للجدل إنما هو نقده للأهمية التي تعطي تقليدياً للاستقراء Induction في المنهج العلمي، وفي بناء العلم والنظرية العلمية.فإلى أشياء وتفاصيل أخرى، يقوم كتاب بوبر "منطق الاكتشاف العلمي"، على فكرة مركزية راديكالية تخالف على نحو حاسم أدبيات البحث العلمي وتقاليده، منذ نهاية القرن الثامن عشر على الأقل، فتذهب إلى أن "مبدأ الاستقراء الذي ينبني عليه هذا المنهج لا يمكن أن يكون حقيقة منطقية بجثة..." بل لا بد أن يكون هذا المبدأ "مقولة تأليفية أي عبارة عن مقولة لا بؤدي نفيها إلى أي تناقض، وإنما هي جائزة منطقياً وحسب". والفكرة الثانية والملازمة للأولى، في فكر بوبر، هي دعواه بأن البحث العلمي لا يبلغ نتائج-حقائق، ولا يتعامل بالحقائق، وإنما هناك اقتراحات وتكهنات وفرضيات، يستكمل بعضها البعض، ويصحح الجديد فيها القديم، ويحلّ الأكثر يسراً وملاءمة محل الأقل ملاءمة وهكذا دواليك.هذا الاتجاه الذي دافع عنه بوبر، في حرارة وجدارة بارزتين، يجد دفعاً آخر بالغ التميز (وبخاصة في العالم الإنجلوسكسوني) في أعمال سير "بيتر مدور" في أعماله كافة، وفي محاضراته الثلاث الأخيرة المنشورة تحت عنوان: "الاستقراء والحدس في التفكير العلمي" غير أن المترجم آثر في هذا الكتاب أصلاً استخدام مصطلح التي استخدمها المؤلف في ما خلا العنوان "البحث العلمي" في العنوان بدلاً من التفكير العلمي "لأنه الأقرب إلى السياق".هذا وتكمن الميزة الأكثر أهمية في إسهام مدور في جمعه، على نحو كثير الخصوصية، بين الخبرة العلمية العملية الطويلة وبين حسه الفلسفي التركيبي والشمولي، سمتان ندر أن اجتمعنا بالمعنى الدقيق للكلمة في الأزمنة الأخيرة. فالعلماء، البحاثة، الذين يقومون بالاكتشافات وينجزون الكثير قلما يلتفتون إلى الطرائق والمناهج والأساليب التي يتوكأون عليها في عملهم العلمي، فهم إنا لا يدركون طبيعة تلك الخطوات المنهجية، أو هم لا يرغبون الحديث فيها.وبالمقابل، فإن منظري المنهج العلمي والمنهجية العلمية هم في غالبيتهم إما فلاسفة (مناطقة، علماء منهجية، مؤرخو علوم...) أو كتاب ميادين أخرى، تعوزهم جميعاً بنسب مختلفة الخبرة العملية، الأمر الذي يترك ثغرات محددة في أنسقتهم المقترحة للمنهج العلمي. وهنا بالضبط تكمن قوة الدليل في ما يراه أو يقترحه سير بيتر مدور. فهو من الوجهة العملية، وإلى كونه باحث مختبر متميز في مشاريع فردية أو مشتركة، مدير المركز القومي لبحوث الطب في بريطانيا (لفترة طويلة)، وعضو الجمعية الملكية البريطانية، وهو أخيراً وفي ذروة نجاحاته العلمية حائز على جائزة نوبل للطب سنة 1960 تقديراً لبحوثه القيمة في ميداني الخلايا والمناعة.وعلى المستوى الفلسفي يبدو مدور كاتباً شديد النفاذ إلى عمق المسائل ومتمرساً في أساليب التحليل والتشريح من جهة التأليف والتركيب من جهة ثانية. بين أكثر هذه الأعمال شهرة نجد الأسماء التالية: "وجدانية الفرد"، "مستقبل الإنسان" و"فن الحل"، إلى أعمال ومحاضرات أخرى.هو ذا إسهام مدور البارز في ميدان مناهج العلوم، والمنهجية عموماً، الذي ينقل عبر هذا الكتاب إلى قراء العربية، وهو يقع في ثلاث محاضرات ألقاها سير مدور في أبريل 1968 في جامعة بنسلفانيا بدعوة من الجمعية الفلسفية الأمريكية. والمحاضرات الثلاث تحمل العناوين التالية: 1-حدود المشكلة. 2-في الاستقرار عموماً. 3-في الحدس عموماً.إن أهمية عمل بيتر مدور في منهجية التفكير العلمي والبحث العلمي لا يجد تحديداً أفضل مما قاله جورج كورنر سكرتير الجمعية الفلسفية الأميركية من أن ما قاله مدور في المنهجية هو أهم ما قيل في الموضوع منذ زمن طويل.