شهدت الرواية العربية المعاصرة تطورات كثيرة، وتغيّرات عديدة، نالت الشكل والمضمون، وانقلبت على أنماط السرد التقليدية، وأطره الثابتة القائمة على أحادية الصوت والوصفية الزائدة، وعلوّ سمة التقريرية، وكذا وكذا هيمنة النزوع الإيديولوجي للكاتب، وإستبداده الصارم بمختلف فضاءات الرواية.وقد وصلت الرواية العربية المعاصرة - بعد مراحل كثيرة وم...
قراءة الكل
شهدت الرواية العربية المعاصرة تطورات كثيرة، وتغيّرات عديدة، نالت الشكل والمضمون، وانقلبت على أنماط السرد التقليدية، وأطره الثابتة القائمة على أحادية الصوت والوصفية الزائدة، وعلوّ سمة التقريرية، وكذا وكذا هيمنة النزوع الإيديولوجي للكاتب، وإستبداده الصارم بمختلف فضاءات الرواية.وقد وصلت الرواية العربية المعاصرة - بعد مراحل كثيرة ومكابدات طويلة - إلى تبنّي بنية سردية جديدة، تنقلب - كما سابقاً - على الأطر الثابتة، وتكسّر منطقها السكوني الرتيب، لتتجسّد بشكل حضورٍ كتابيِّ مختلفٍ، متعدِّد الإيحاءات، لا نهائيّ القراءات، يستدعي كثيراً من التأويلات، والتفسيرات، ويحفل ببعد إنفتاحيّ عميق، يستثير دهشة المتلقي، وفضوله، ويوقظ في ذهنه كثيراً من الأسئلة والإشكالات.ومن الظواهر اللافتة، والمضامين المستبدّة بأغلب فضاءات الرواية العربية المعاصرة، تأتي ظاهرة العجائبية لتشغل الحيز الأكبر من تلك الفضاءات، حيث لم يعد الروائي المعاصر مكتفياً بنقلٍ حرفي لمرجعيات الواقع الخارجيّ، ولا بوصفٍ دقيقٍ لشخوصٍ هم نسخةٌ مطابقةٌ لشخوص الواقع بكلِّ ما يعتمل في دواخلهم من نوازع الخير والشر، أو أمكنةٍ وأزمنةٍ هي نفسها أمكنة الحياة وأزمنتها، بل غدا هذا الروائيّ مجنّحَ الخيال، جامحَه، لا يكتفي بتجاوز الواقع عن طريق خلق عالم آخر موازٍ له - صحيح أنه متخيّل، ولكنه واقعي أيضاً وممكن الحدوث - بل ينقلب على هذا الواقع بتصوير كلّ ما لا يمكن أن يقع فيه، من أحداث عجائبية مثيرة، وفسحات زمكانية غريبة، وشخوص لا تقلّ عنها غرابة، بعضها يحضر بشكل شديد التعالي محمّل بكثير من الطاقات والقدرات السحرية الخارقة، وبعضها الآخر يتراءى مشوّها، ممسوخاً، قد يكون مسخه هذا أحد تجليات الواقع، وأقنعته الممعنة في البشاعة والثقل.ورغم أن العجائبية تعدّ سمة بارزة من سمات التراث الحكائيّ العربي القديم، ولا سيما حكايات ألف ليلة وليلة، ومجموع السير الشعبية، إلا أنها في الرواية المعاصرة تكتسب معان جديدة مختلفة عن المعاني التراثية، وتستقي مصادرها من هذا التراث العربيّ القديم وكذا من التراث الغربي بنوعيه؛ القديم والحديث، وبمعنى أدقّ يمكن القول إن العجائبية في الرواية العربية المعاصرة تستقي مصادرها، وتمدّ جذورها في التراث الإنسانيّ كلّه شرقيّة وغربية، ممّا يكسبها حمولات تأويلية عميقة، وبعداً قرائياً متجدداً وخصباً، ومنفتحاً على عوالم سحريّة، قد يكون لجوء الكتاب المعاصرين إليها إحالة إلى علوّ مشاعر السخط، واللاإنتماء، والإغتراب عن الواقع اليومي المألوف.ويمكن إعتبار مثل هذا الإغراق في عوالم السحر والخيال نزوعاً شمولياً يشترك فيه أغلب البشر، مما يمنح البحث في هذا الموضوع بعداً إنسانياً وذاتياً، قد يكون لهما الفضل في دفع الدراسة نحو مزيد من النضج، والرصانة.وقد قسِّم هذا البحث إلى مدخلٍ نظريّ عن إشكاليّة مصطلح ومفهوم العجائبيّة في النقدين: العربيّ، والغربيّ، وأربعة فصولٍ: تناول أولّها مصادر العجائبيّة وأصولها الأولى المتدرجة، من المصدر الأسطوريّ، إلى الدينيّ، والشعبيّ، فالنفسيّ.وتناول الفصل الثاني العجائبيّة موضوعاً أدبياً، في حين تناول الفصل الثالث موضوعات العجائبيّة، وهذا حسب ما جاء في نماذج الدراسة، التي تراوحت بين العناصر الآتية، المسخ، والتحوّل، والرحلة، والغيبة، والرموز الحيوانيّة، أما الفصل الرابع، فتناول وظائف العجائبيّة، وغاياتها الموضوعاتيّة، والفنيّة، من وظيفة ترميزيّة، إلى وظيفةٍ تفاعليّة، فوظيفة أدبيّة، وأخرى فنيّة؛ وذيل البحث بخاتمةٍ أجملت أهمَّ ما وصل إليه البحث من نتائج.أما نماذج الدراسة، فقد وقع اختيار المؤلفة على الأعمال الآتية: "الغرف الأخرى، جبرا إبراهيم جبرا"، "إمرأة القارورة، لسليم مطر"، "يالو، لإلياس خوري"، سهرة تنكرية للموتى لغادة السمان"، "إمرأة الغائب، لمهدي عيسى الصقر"، "التراس؛ ملحمة الفارس الذي اختفى، لكمال قرور".