إن التوجه إلى دراسة أي موضوع من المواضيع التي يتعلق بها قصد البحث لابد وأن تستند إلى أسباب ودوافع تشكل الحوافز الحقيقية لهذه العملية، سواء بالنسبة إلى طبيعة الموضوع في حد ذاته، أو الإطار الفكري الذي يشمله، أو فيما يرجع إلى الأهداف التي يتوخى تحصيلها من خلال ذلك.ورغم أن المسعى في هذا السياق من الناحية المبدئية هو أن تكون الدوافع ...
قراءة الكل
إن التوجه إلى دراسة أي موضوع من المواضيع التي يتعلق بها قصد البحث لابد وأن تستند إلى أسباب ودوافع تشكل الحوافز الحقيقية لهذه العملية، سواء بالنسبة إلى طبيعة الموضوع في حد ذاته، أو الإطار الفكري الذي يشمله، أو فيما يرجع إلى الأهداف التي يتوخى تحصيلها من خلال ذلك.ورغم أن المسعى في هذا السياق من الناحية المبدئية هو أن تكون الدوافع المقصودة متسمة بقدر معين من الموضوعية، فإنه لا يمكن مع ذلك استبعاد تلك الهواجس المعرفية الخاصة التي تدفع الباحث في هذا المجال إلى تحقيق بعض الاقتناعات الذاتية التي يدعو إلى تحصيلها الرغبة في تشكيل وعي خاص حول بعض القضايا الفكرية والتاريخية.وانطلاقا من هذه الاعتبارات فإنه لا يمكن إبعاد مسألة اختيار موضوع البحث، وكيفية النظر في عناصره عن العوامل التي أدت إلى كلا الجانبين، وهو ما ينطبق على هذه الدراسة التي اتخذت موضوعا لها «تاريخ الكنيسة في المغرب»، وينصرف منطلق الاختيار وأسبابه هنا إلى مختلف الجوانب التي يمكن أن يستوعبها هذا الموضوع، وهي على سبيل الإجمال، البحث في موضوع الحضور الديني المسيحي بالمغرب، لما يطرحه هذا الموضوع من أهمية بالغة في مجال البحث في تاريخ الأديان، إذ يفترض أن سؤالا ملحا ما زال مشروعا بالنسبة إلى دارس علم الأديان وهو : ما هي الصيغة التي تميز بها الحضور الديني المسيحي في المغرب، وبعبارة أكثر تحديدا في هذا السياق، هل هناك معطيات وحقائق تمكن الباحث في هذا المجال من التعرف على تاريخ الكنيسة بالمغرب، واستقرار النشاط المسيحي به ؟ومن أسباب اختيار هذا الموضوع أيضا ما تعرفه حدودنا الشمالية من شراسة الكرز بالإنجيل ومحاولات التنصير، فالمغرب الذي انطلقت منه راية الإسلام إلى أوربا ومجاهل إفريقيا ظل مستهدفا منذ وقت بعيد في هويته التي انبنت على الدين واللغة خلال خمسة عشر قرنا، إذ لم يقف المبشرون الذين توافدوا منذ القديم عند حدود الخدمة الإنسانية والاجتماعية، بل ساهموا في تهيئ المغرب لغزو حضاري واستعماري وعسكري، وحصلوا على كثير من الامتيازات التي سارت في اتجاه خدمة الأهداف السياسية والدينية التبشيرية والتنصيرية للدول المسيحية التي مثلوها.وإذا كان متعلق القصد في هذا السياق العودة إلى الماضي قصد تتبع حضور الكنيسة في المغرب منذ نشأتها وفي كل مراحل تطورها التاريخي، فإن هذه العودة لم نقصد بها التأريخ فقط للكنيسة، بل حاولنا تجاوز الوصف إلى تحليل سمات ومواصفات هذا التواجد الديني، ومختلف أهدافه وأبعاده في المجتمع المغربي. وقد وجه هذه العودة حافز علمي وحضاري، فهذه الدراسة تحاول إبراز جانب من جوانب محاولات تدخل (دار المسيحية) في (دار الإسلام) دينيا.لقد حاولت بعض الدراسات أن ترصد تاريخ نشأة المسيحية والأسباب الباعثة على انتشارها أن ترصد تاريخ نشأة المسيحية والأسباب الباعثة على انتشارها وعقائدها ومذاهبها وشرائعها وأحكامها ومنزلتها بين الأديان. وتناولت أبحاث أخرى الإطار التاريخي والاجتماعي والثقافي للديانة المسيحية في مختلف البقاع التي انتشرت فيها، فدرست الظاهرة الدينية من خلال حضورها الديني في مختلف الجماعات الإنسانية التي تمكنت من الوصول إليها ومخاطبتها، ولم تهتم بالمغرب إلا لماما.غير أنه موازاة مع هذه الأبحاث التي تهتم بالمغرب في تأريخها للديانة المسيحية، وجدت الكتابات والدراسات الأجنبية التي اهتمت بالتأريخ للنشاط المسيحي والوجود (التبشيري) في المغرب، وخاصة في القرون الأربعة الأخيرة ( من ق 16 إلى ق 20). لكن هذا النوع من الدراسات لا يعبر عن الصورة الحقيقية والحيثيات الواقعة والأبعاد التي كان يرمي إليها النشاط الكنسي بالمغرب، لأنه يعد من صميم التصور المسيحي الذي لا يمكن أن يكون موضوعيا في تسجيل الحقائق والأحداث والأهداف ونتائجها.ورغم ذلك، وعلى اعتبار أن هذا الموضوع هو الجانب المسكوت عنه في تاريخ المغرب، فقد ارتأينا أن نستند إلى هذه المرجعية التاريخية، وذلك من أجل متابعة تطورات وحيثيات تواجد الكنيسة بالمغرب متابعة تاريخية مفصلة. ومن هنا راعت الدراسة في تبويبها اتساقها مع طبيعة الأسس المنهجية التي أوحى بها هذا الموضوع، فقسمناها إلى قسمين.حاولنا في القسم الأول وضع مقاربة تاريخية تحليلة لحيثيات الوجود الكنسي ومختلف أبعاده وأهدافه الحضارية والدينية التي حاول تحقيقها على أرض المغرب، والأغراض الإنسانية والاجتماعية التي حاولت من خلالها الكنيسة أن تثبت حضورها، وتحقق مخططاتها التبشيرية والتنصيرية.أما القسم الثاني، فيتناول ترجمة مجموعة من النصوص التاريخية الإسبانية والمخطوطات التي شكلت في هذا السياق منطلقا أساسا وهاما من أجل فهم وجهة النظر المسيحية وخلفياتهت عن خصوصية ومدى الحضور الكنسي في المغرب، وقد تم اختيار هذه النصوص حسب التتابع الزمني لمراحل حضور الكنيسة ومظاهر تطورها، وحسب أهميتها في تسجيل الحقائق التاريخية المرتبطة بهذا الحضور. ومن ثم تضمن هذا القسم خمسة فصول تناولت تأسيس الكنيسة في المغرب، ووضعها في مختلف المراحل التاريخية.