“بابكو سيمفونية البحرين الكبرى”، هو كتاب لبدر عبد الملك يحكي فيه بشكل سردي ممتع قصة شركة بابكو البحرين منذ ميلادها وحتى تاريخ صدور الكتاب،وهي في الحقيقة قصة البحرين الحديثة بما فيها من كفاح ومعاناة وتغيرات دراماتيكية في حياة أهلها،وذلك منذ اللحظة التي تفجر فيها النفط في أرض البحرين وغيرت الحياة على أرضها بعد أن توقفت آخر سفينة و...
قراءة الكل
“بابكو سيمفونية البحرين الكبرى”، هو كتاب لبدر عبد الملك يحكي فيه بشكل سردي ممتع قصة شركة بابكو البحرين منذ ميلادها وحتى تاريخ صدور الكتاب،وهي في الحقيقة قصة البحرين الحديثة بما فيها من كفاح ومعاناة وتغيرات دراماتيكية في حياة أهلها،وذلك منذ اللحظة التي تفجر فيها النفط في أرض البحرين وغيرت الحياة على أرضها بعد أن توقفت آخر سفينة وانتهى عالم البحر والغوص والسخرة والعبودية وبدأ عالم جديد يرتبط بالعالم المتحضر ويتأثر بما يجري فيه وما يسوده من مفاهيم.هذا الكتاب بمثابة رحلة جميلة عبر الزمن الماضي يأخذنا فيها بدر عبد الملك ليقدم لنا فيها أحداثا وشخوصا غيرت وجه الحياة في بلادنا،ففي هذه الرحلة نلتقي بهولمز النيوزلندي الذي يرجع إليه الفضل في توصيل المياه العذبة إلى بيوت أهل البحرين عن طريق حفر الآبار الارتوازية،واكتشاف النفط في أراضيها،ولذلك يظل اسما مهما في تاريخ البحرين،ومجيد مرهون تلميذ مدرسة القضيبية ومدرسة ابرنتيس،عاشق الموسيقى، المناضل السياسي بشركة بابكو الذي قضى 22 عاما من عمره بالسجن.ويمر بنا على بيوت وأماكن لها رمزية خاصة،مثل بيت سكينر الشامخ بأسواره وأشجاره والفرق الشاسع بينه وبين بيوت البحرينيين المصنوعة من السعف،ونادي بابكو وما يدور فيه من سهرات وصخب،وعلى عوالي الفردوس الصحرواوي وجبل الدخان وغيرها من المواقع ذات الأهمية والرمزية الخاصة.وينقل لنا صورا من الماضي مثل صور عمال بابكو العائدين بملابس المعروفة الملطخة بالزيوت،ليس فقط ليسعدوا أسرهم،ولكن يسعدوا أصحاب المحلات الذين ينتظرون لحظة حصول هؤلاء العمال على رواتبهم لكي يسددوا لهم ما اشتروه منهم بنظام السلف على مدار الشهر،وصور صبية ابرنتيس أى الصبية الذين كانوا يتدربون في مدرسة ابرنتيس لكل يتأهلوا للعمل في بابكو.ويعرفنا على مصطلحات وأشياء طريفة مثل “السفرطاس”،تلك الأداة التي تتكون من عدد من الطاسات التي كان يستخدمها العمال الكادحين في حمل طعام فطورهم وغدائهم فيها عند الفجر وهم يركضون للحاق بباصات الشركة.ويجعلنا نقتنع أن اللون الأسود بالنسبة لأهل البحرين وغيرهم من أهل الخليج ليس لون الحزن كما يعرفه غيرنا من الشعوب،ولكنه لون الفرحة،لأنه لون النفط الذي هو عرسنا الكبير. ويعود بنا إلى العام 1929،حيث تم الاتفاق بين مكتب المستعمرات وبين شركات على قيام شركة نفط البحرين المحدودة بابكو،وهي اللحظة التي وصفها مؤلف الكتاب بأنها كانت بداية سفر الخروج للشعب البحريني من عالم التخلف إلى عالم التحديث والعصرنة.ويصف الكاتب لحظة تدفق النفط في البحرين بأسلوب أدبي رائع،فيقول:”بين الماء واليابسة والمسافات الملونة بالشقاء وبالكدح وبالنهب وبالضيم وبالظلم،رأينا حقيقة جديدة لا يمكن إهمالها أو تناسيها،حين لمسنا من خلال النفط المستخرج من الأرض،حضارة جديدة وانتقل شعبنا من حال إلى حال”ويسجل لحظة توقف آخر سفينة وتوديع أهل البحرين لحياة البحر ورومانسيتها والانتقال إلى حياة أخرى بين الآلات الجامدة الخالية من أي رومانسية كلحظة فارقة فصلت بين عالمين مختلفين في كل شيء.جيل التدشين وجيل الأحلامويحكي الكاتب عن الجيل الأول من البحرينيين الذين شهدوا تدشين بابكو لأول مرة وكيف كان يحلم أبناء هذا الجيل بالالتحاق بالعمل في هذه الشركة التي ستحقق الأحلام،وكيف كانوا يقيمون الأفراح عندما يتم قبولهم للعمل بها،وكيف التحق هؤلاء البسطاء القادمين من ملوحة البحر بمهن بسيطة ورضوا بالقليل بسبب قلة خبرتهم المهنية وحاجتهم الماسة إلى المال.ثم يأتي الجيل الثاني محملا بأحلام وتطلعات مختلفة نتيجة لما حصل عليه من تعليم وتدريب جعله جديرا بالحصول على فرص وظيفية أفضل والتدرج في الوظائف القيادية بنسب أكبر من جيل الأباء الذي شهد الانطلاقة الأولى لهذه الشركة،ويصف لنا الكاتب كيف أحدثت بابكو نقلة نوعية في وعي ذلك الجيل الجديد من الشباب جعلته يسعى إلى حياة أفضل وأرقى من حياة الكفاف التي رضي بها الآباء.وينقل لنا الكاتب عن جيمس بلجريف الابن أن نسبة البحرينيين من جيل الأحلام في المناصب القيادية بالشركة زادت من 67 بالمائة في عام 1958 إلى 87.6 بالمائة في عام 1968،لأنهم تعلموا وتدربوا بشكل أفضل ممن سبقوهم.ولكن طريق الأحلام الذي مشى فيه أبناء الجيل الجديد لم يكن مفروشا بالورود كما وصف كاتبنا ولكنه كان مليئا بالمعاناة،وكان على أبناء هذا الجيل أن يقدموا قرابين كثيرة منذ إضرابات عام 1954- 1956 وحتى انتفاضة مارس 1965 التي انطلقت شرارتها من غضب جيل أصيبت أحلامه بالانتكاسات والاحباطات وبدأ يكتشف وجود مؤامرات جهنمية من الشركة الاستعمارية لتسريح العشرات من العمال.وفي مارس 1963 وزع منشور لجبهة التحرير الوطني كان بمثابة تقرير سياسي خاص بشركة بابكو تضمن نشاطات الحركة العمالية في الشركة وما صاحب ذلك من حركة تسريحات كانت تعدها الشركة الاستعمارية،إلى جانب مجموعة من الاجراءات السيئة الأخرى التي تمثلت في تخفيض رواتب العمال والموظفين البحرينيين ونقل بعضهم إلى وظائف أدنى كمحاولة لتطفيشهم. وكان التسريح الأول الكبير في 1944 – 1945 والثاني في 1964- 1965 بالاتفاق مع دوائر الاستعمار البريطاني والأمريكي،وقد بلغ عدد المسرحين 1500 عامل بما يمثل 25 في المائة من جميع عمال بابكو،كما أصابت تخفيضات الرواتب 50 بالمائة من العمال البحرينيين.حماره وصخين وعشر آناتبين حاجة العمال الفقراء إلى العمل وجشع الشركة الاستعمارية ورغبتها في الكسب ومص دماء هؤلاء الفقراء،كان لابد أن يظهر “المقاول”أو الوسيط الذي يقوم بدفع هؤلاء العمال إلى المشاريع الانشائية للشركة مقابل أجور زهيدة وعند انتهاء هذه المشاريع يتم التخلص منهم دون أي أعباء على الشركة. ويقول المؤلف أن المقاول كان هو اليد الأمينة للشركة يوفر لها العمالة الرخيصة ويوفر لنفسه أيضا من عرق هؤلاء البسطاء الذين كان يجلبهم من القرى المجاورة مثل سترة والمعامير والنويدرات والعكر،وكان يجلب العامل مع حماره وصخينه مقابل عشر آنات فقط يوميا وأحيانا أقل من ذلك. ويحكي الكاتب أنه في فترة وجود العامل البحريني وحماره وصخينه،ولدت علاقات إنسانية جديدة بين العمال الجدد،لكن ليس على ظهر السفينة هذه المرة كما كان في عصر الغوص إنما بين ضجيج الآلات والرطانة الأجنبية. ويحكي كيف تعارف هناك أهل القرية البحرينية والأحياء البعيدة وانصهروا في بوتقة علاقات انتاجية مختلفة،وكيف تحول الخطاب اليومي بينهم تدريجيا إلى مفردات انسانية جديدة وإلى أحلام إنسانية تخمرت من أجل الانتقال من عمل مؤقت إلى عمل ثابت ومستقر ومسجل في قوائم الشركة وحساباتها.ماذا لو لم يتدفق الذهب الأسود؟ويمضي بنا الكاتب بأسلوبه الشيق الممتع ويحكي لنا مدى التغيير الذي أصاب كل شيء على أرض البحرين نتيجة لتدفق النفط في أراضيها،ويعقد مقارنة بين البحرين قبل النفط و بعده،ويجيب على سؤال افتراضي،وهو ماذا كان يمكن أن يحدث لو أن النفط لم يتفجر في البحرين وفي غيرها من دول الجوار؟خاصة بعد كساد اقتصاد اللؤلؤ عالميا؟ويقول أن محدودية الدخل قبل النفط كانت تفرض ذاتها على مجمل العملية التنموية،ولو لم يتفجر النفط كمنقذ حقيقي،فإن التجارة نفسها كانت ستصبح كاسدة والحياة الاجتماعية بائسة وكان سيبقى التمر والسمك المصدرين الشحيحين للعيش،وبالتالي كان أهل البحرين – بتعليمهم البطيء والمحدود،سيجدون أنفسهم أمام خيار النزوح والهجرة بحثا عن عمل،أو التفتيش عن مصادر جديدة قد لا تكون ذات فاعلية اقتصادية مجزية،مثل السياحة التي بواسطتها نجحت دول الكاريبي بإدارة حياتها.ثم يدعنا الكاتب نتخيل حياة البحرين في القرون السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر،حين كانت مركزا لتجارة الأسلحة والعبيد والتهريب،والتي كانت قابلة للانتكاس متى تغيرت خطوط ومراكز البيع والشراء. ويضيف الكاتب أن ما كان في قاع مياه منطقة الخليج ويابستها من خزانات نفط وغاز جعلها مكانا جاذبا لكل المؤسسات العالمية،فغزارة النفط خلقت حياة وفيرة لودائع مالية اجتذبت عالما آخر،وهو المؤسسات الكبرى والبنوك. ويقول أنه لولا رخص ثمن الغاز ووجوده لما ولدت شركة ألبا للألمونيوم في البحرين،ولولا الألمونيوم ما نبعت صناعات متفرقة في هذا الخام،في حين خلق النفط ووفر صناعات بتروكيماوية ومصانع تكميلية وتحويلية ساهمت في عملية التحديث،وكل ذلك كان نتيجة نعمة اكتشاف النفط الذي ظل في قاع الأرض دهورا،وكان بالامكان أن يبقى للأبد لولا النزعة الاستعمارية والتقسيم العالمي لرأس المال،تلك النزعة الباحثة عن مصادر جديدة للنهب والاستغلال،مصادر تدفع بعجلة التنمية في بلدانها أولا،وفي بلدان أخرى كثيرة وأسواق متعددة.الحركة الوطنية البحرينيةوخلال رحلة الكاتب مع بابكو يبين لنا كيف نشأت الحركة الوطنية البحرينية وسط هذه الطبقة الجديدة من العمال وتأثرت بالحركة التقدمية في إيران من خلال العمال القادمين من “عبادان” وغيرها وما حملوه معهم من أفكار وكيف تطورت هذه الحركة.رحلة من المتعةوباختصار فهذا الكتاب عبارة عن رحلة ممتعة عبر الزمن يعود بنا خلالها المؤلف بآلة الزمن إلى الوراء لنعيش احداثا ونلتقي بشخوص من خلال شركة بابكو التي هي بلا شك كانت أداة التغيير الأولى التي نقلت البحرين إلى الحداثة وإلى التعليم والتواصل مع العالم،رغم أنها كانت في الأصل أداة من أدوات الاستعمار الطامع في خيرات المنطقة،الذي أكل عرق وجهد العمال الفقراء ولكنه علمهم صنعة وغير من أوضاع أبنائهم.الكاتب يمر بنا في رحلته الممتعة على بابكو وما جرى لها في زمن الحرب وكيف تلقت القنابل الايطالية،وما الذي فعلته بريطانيا من إجراءات حمائية آنذاك. ويحكي لنا كيف توسعت الشركة خلال رحلتها وكيف أتت كلمة “الريفاينري” (المصفاة) والشفت (نوبة العمل) إلى اللغة اليومية البحرينية، ويبين لنا كيف كانت بابكو أداة لصهر المجتمع البحريني في بوتقة واحدة وربطت بين القرى البعيدة وبعضها البعض وكيف مكانا للتعارف والاندماج بين أبناء البحرين من كافة جزرها. وفي النهاية يحكي لنا عن بابكو وكيف أصبحت بعد استقلال البحرين وحتى الآن. وختاما نقول أن هذا الكتاب جدير بالقراءة،وهو يجمع بين المتعة وبين المنفعة والثقافة التاريخية ويعد مرجعا جيدا لكل من يريد أن يعرف البحرين وكيف تطورت اقتصاديا واجتماعيا،وكيف انتقلت من مجتمع الغوص وركوب البحر إلى مجتمع عمالي له ثقافة مختلفة وتطلعات مختلفة وكيف كانت شركة بابكو سببا للتعليم والتغيير في بلدنا.