بعد أن ووري جثمان الآنسة "جيرتروود بيل" في عصر يوم الثاني من شهر تموز من عام 1926 في المقبرة العسكرية البريطانية المعروفة في بغداد حتى وقت متأخر باسم "مقبرة الإنكليز"، وقف المندوب السامي البريطاني السير هنري دوبس وقال في ختام كلمته التأبينية: "... إن عظامها ترقد حيث أرادت لها أن ترقد: في تربة العراق..". هذا يكشف عن مدى المحبة ال...
قراءة الكل
بعد أن ووري جثمان الآنسة "جيرتروود بيل" في عصر يوم الثاني من شهر تموز من عام 1926 في المقبرة العسكرية البريطانية المعروفة في بغداد حتى وقت متأخر باسم "مقبرة الإنكليز"، وقف المندوب السامي البريطاني السير هنري دوبس وقال في ختام كلمته التأبينية: "... إن عظامها ترقد حيث أرادت لها أن ترقد: في تربة العراق..". هذا يكشف عن مدى المحبة التي تكنها الآنسة بيل لهذا البلد الذي شاءت الظروف أن تقضي على ترابه شطراً من حياتها كان حافلاً بالنشاطات السياسية والاجتماعية وذلك نابع من حماسها حيث كانت شديدة الحماس مع من حولها، وكانت تواقة، مهتمة، ولها نشاط وحيوية دائمتين. لربما لم تكن جيرتروود مارجريت لوثيان بيل (1868-1926) امرأة خارقة القدرات، بيد أنها لم تكن، بالتأكيد، شخصية اعتيادية.كانت في الواقع عجيبة ومدهشة في آن واحد. كيف لا وهي العالمة والشاعرة والمؤرخة والآثارية والناقدة الفنية والمكتشفة والمنادية بالمذهب الطبيعي والمسؤولة الحكومية المتميزة، وإحدى هواة رياضة تسلق الجبال، وهي مجالات يعترف المختصون فيها بأن الآنسة بيل كانت بحق خبيرة في كل منها. وقد عكست رسائلها جزءاً من شخصيتها والكثير من الجوانب السياسية لتاريخ العراق في هذه الفترة.ولكن ثمة حقيقة يتعين إدراكها؛ أن هذه الرسائل ليست سجلاً تاريخياً لفترة الاحتلال البريطاني وما بعده، بل هي تاريخ الآنسة بيل فيها، هذا وإن ترجمة نصوصها إلى العربية لم يكن بدافع من كونها سجلاً تاريخياً؛ بل باعتبارها مصدراً معاصراً ذا أهمية بارزة يذكر جوانب معينة وتفاصيل خاصة قد يلجأ إليها من يرغب في كتابة تاريخ هذه الفترة أو إعادة كتابته، وباعتبارها مرآة تعكس بشكل خاص مواقف الكادر الأعلى للقيادة السياسية البريطانية في العراق، والوضع النفسي لأعضائه وما تتجاذبهم من قوى وتحركهم من دوافع، وكذلك مواقف الشخصيات العراقية البارزة من الوجود البريطاني بشكل عام، ومن القضايا المصيرية بشكل خاص.لقد جاء كتاب ("جيرتروود بيل من رسائلها الشخصية" في مجلدين. يتناول الأول منها الفترة (1889-1914) ويتناول الثاني (1914-1926) ). وبهذا يكون هذا الكتاب الذي نقلب صفحاته هو ترجمة لمضمون المجلد الثاني الذي يستقطب مضمونه اهتمام القارئ العربي بشكل عام، والقارئ العراقي بشكل خاص. أما المجلد الأول فإنه يشمل تفاصيل حياتها منذ ولادتها إلى حين عودتها من رحلتها المشهورة إلى شبه الجزيرة العربية وحجزها مدة في حايل من قبل ابن رشيد. وأما بالنسبة للمرحلة الثانية التي هي موضوع رسائل هذا الجزء فإنه ومن بين الجوانب البارزة لهذه المرحلة (1914-1926)، هو ذلك المتعلق بطبيعة المشاكل المعقدة والمضنية التي كانت تحيط بالعراق والتي تركت بصماتها الواضحة على عمليتي تشكيل الحكم الوطني والانطلاق بحكم البلاد. وكان على رأس هذه المشاكل بنية الشعب العراقي، أي تركيبة عناصره، ثم موقعه الجغرافي وصلته بالاحتلال البريطاني، وأرضه وخيراته. هذه الجوانب مجتمعة كونت سمات تركت بصماتها الواضحة على السياق التاريخي اللاحق للعراق، تبرز أهمية هذه الفترة التي يغطي هذا المجلد من كتاب "إليزابيت بيرغوين" المؤلفة، بعض جوانبها الهامة، وفوق ذلك كله تبرز بشكل واضح لا لبس فيه جدوى وحكمة السياسة التي اعتمدها الملك فيصل الأول، والتي كانت تقوم على مبدأ "خذ ثم طالب".