تعبير (الأدب) في اللغة، معناه السلوك الحسن والخلق الرضي في التعامل مع الناس، ولأن علوم اللغة من نثر ونظم تهذب النفس، وتقوّم الشخصية، فقد أطلق عليها علوم الأدب، ثم صارت تطلق هذه الكلمة على ضروب المعرفة والعلوم النظرية، والتطبيقية، فعرف منها أدب الرحلات، والأدب الجغرافي.كما أطلق هذا التعبير على ممارسة الصنائع فكان منها أدب السامع ...
قراءة الكل
تعبير (الأدب) في اللغة، معناه السلوك الحسن والخلق الرضي في التعامل مع الناس، ولأن علوم اللغة من نثر ونظم تهذب النفس، وتقوّم الشخصية، فقد أطلق عليها علوم الأدب، ثم صارت تطلق هذه الكلمة على ضروب المعرفة والعلوم النظرية، والتطبيقية، فعرف منها أدب الرحلات، والأدب الجغرافي.كما أطلق هذا التعبير على ممارسة الصنائع فكان منها أدب السامع والمتكلم، وأدب القضاة، وأدب مخالطة الحكام، وأدب الندامى، وأدب ممارسة الطب. وقد صنف العلماء العرب في جميع هذه الميادين فعرف منها كتاب "أدب القاضي" لكل من محمد بن الحسن الشيباني والقاضي الحسن بن زياد اللؤلؤي و"كتاب العشرة" لمسلم بن قتيبة الكوفي. ومنها أيضاً كتاب "أطب الطبيب" لإسحاق بن علي الرهاوي، وهو هذا الكتاب الذي بأيدينا محققاً.يقصد إسحاق بن علي الرهاوي بتعبير "أدب الطبيب" في كتابه هذا ما يجب أن يكون عليه صاحب هذه المهنة من إيمان عميق بالله تعالى، ومعرفة واسعة بعلوم مهنة الطب، وما يحفظ صحة الجسم والعقل والنفس، وسلوك رضي في تعامله مع المرضى، وذويهم، ومن حولهم من الأقرباء والزائرين والخدم.واستهدف الرهاوي من وضع هذا الكتاب، إضافة إلى تعليم آداب المهنة، إبراز شرفها، وعظيم ما يستفاد منها في حالتي الصحة والمرض، وما ينبغي على الطبيب من الثقة بعون الله تعالى، خالق الإنسان والأكوان، وأنه هو الباري، والمعين، والشافي. وهذا تثقيف روحي للطبيب يبعد من يتحلى به عن الدنايا والخداع، وابتزاز أموال البسطاء من الناس والمرضى، ويتحاشى ما يفسد صناعته سواء كان ذلك من جانبه، أو من جانب مريضه، وما يوصل بينهما من الممرضين والصيادلة، والمرضى، وأهلهم، ومن يقوم على خدمتهم، وزائريهم إضافة إلى معرفة مركبات جسم الإنسان، وما فيه من أجهزة وأعضاء كأدوات الحس الخمس، والأعضاء الرئيسة كالدماغ والقلب، والكبد، والأعضاء التي تخدمها كالمعدة والكليتين، والطحال، والمثانة، والرئة. ولمعرفة هذه الأعضاء لا بد من الإلمام بتشريحها، وبوظائفها الغريزية.وقد خصص الرهاوي لهذا الموضوع الباب الثاني وهو أطول أبواب الكتاب جميعا وعدّه القاعدة التي يعتمد عليها ما في الكتاب من معلومات في الوقاية من الأمراض (تدبير الأصحاء) وتشخيص الأمراض وعلاجها (تدبير المرضى). كما أدخل الرهاوي في هذا الباب جدولاً لأعمال الطبيب اليومية والتي كان هو نفسه يمارسها بحرص ودقة واهتمام. وتتضمن وصاياه نظافة الثوب، والجسد، وابتداء اليوم بالصلاة إلى الله تعالى ثم البدء بعيادة المرضى، وضبط سجل لكل واحد منهم يرجع إليه عند تكرار الزيارة، أو الإصابة بمرض جديد.كما تطرق في هذا الباب، بعناية خاصة، إلى مكان يعرفه الأطباء العرب بالأسباب الستة وهي: المأكل والمشرب، والحركة والسكون بما فيها النوم واليقظة، والاحتقان والاستفراغ، وتأثيرات المحيط الخارجي والانفعالات النفسية، ومحلات السكن، والمدن، وهي عوامل تناول بحثها بتفصيل الأطباء العرب كابن الطبري، وأبي بكر الرازي.كما تطرق الرهاوي إلى عوامل أخرى لها علاقة بحفظ الصحة، أو تسبب المرض كالعادات والأهوية، والأمواه، والمهن والصنائع. ويبدو مما ورد في كتاب "أدب الطبيب"، وفي كتاب "عيون الأنباء" لأبن أبي أصيبعة أن الأطباء قد كثر عددهم في بغداد وغيرها من المدن، واندس فيما بينهم من يس له علم بصناعة الطب، بل اعتمد على مهارته في الخداع باسم الطب، فخصص الرهاوي لمعالجة هذه الحالة الخطيرة بابين أحدهما في "امتحان الطبيب" والآخر "في التحذير من خدع المحتالين، ومنتحلي صناعة الطب" وإذا كسبنا الرهاوي قد أدخل موضوع امتحان الطبيب (محنة الطبيب) في كتاب "أدب الطبيب" لينبه الحكام إلى حجب من لا يجيد ممارسة هذه الصناعة، فإنه بالتأكيد لم يكن الأول إلى هذه المبادرة في الطب الاجتماعي، فقد سبقه كل من يوحنا بن ماسويه، وحنين بن إسحاق فكان لهما كتابان كاملان بهذا الموضوع بينهما للرهاوي قسم في كتابه "أدب الطبيب".وواضح أن مضامين كتاب "أدب الطبيب" مكملة لأفكار ابقراط ومن كتب بعده في السلوك المهني للأطباء، فقد حدد هؤلاء ما كتبوه في أخلاقيات الطبيب في نفسه، وفي علاقته بالمرضى، ومن له صلة بهم، أما إسحاق الرهاوي في كتابه "أدب الطبيب" فقد توسع في هذا الموضوع فشمل كل ما له علاقة بالطب والتطبيب بما في ذلك ذوي المريض، وخدمه وزائريه، ومن يركب له الدواء، ومن يستحضره، ويسقيه إياه، ومن ينقل أخبار المريض إلى طبيبه.