يقول غوته على لسان إحدى شخصياته في مسرحيته فاوست: إننا عندما تعوزنا الفكرة نستعيض عنها دائما بكلمة تحل محلها. ولا يصح هذا القول عندما تشح الأفكار فقط، بل يصح أكثر ما يصح عندما ترتبك الأفكار وتربك. إذ تصبح الكلمة عندئذ كالعصا المتينة، نتكئ عليها تعويضا عن عدم الأمان الذي قد يجلبه اتكاؤنا على أفكار فارغة كالقصب الهش الذي يستحيل ال...
قراءة الكل
يقول غوته على لسان إحدى شخصياته في مسرحيته فاوست: إننا عندما تعوزنا الفكرة نستعيض عنها دائما بكلمة تحل محلها. ولا يصح هذا القول عندما تشح الأفكار فقط، بل يصح أكثر ما يصح عندما ترتبك الأفكار وتربك. إذ تصبح الكلمة عندئذ كالعصا المتينة، نتكئ عليها تعويضا عن عدم الأمان الذي قد يجلبه اتكاؤنا على أفكار فارغة كالقصب الهش الذي يستحيل الاستناد عليه. لهذا فإن الكلمات، خاصة منها المصطلحات الفنية، يمكن أن تبعث الراحة فينا؛ فهي على الأقل، تمثل شيئا ما. بل إنها قد تؤدي هذه المهمة على أفضل نحو، مع أن ما تمثله قد يكون مخطئا كل الخطأ، بل أسوأ من ذلك: قد تكون سببا للخلط. وقد قال اللورد بيكون: إن الحقيقة تنبع من الخطأ أكثر مما تنبع من الخلط. فالكلمات قد لا تخفي حقيقة غياب أية أفكار خلفها فحسب، بل تستعمل كوسائل لإخفاء البلبلة التي يعاني منها مستعملوها أيضاً. لا بل أن الكلمات، خاصة منها المصطلحات الفنية، قد تتضمن تحيزات وتبريرات شبه منطقية تقوم على أنساق للقيم لم تخضع للتحليل. والأشكال الجامدة من هذا النوع يمكن أن تؤدي إلى ما هو أسوأ من مجرد الخلط. إن اصطلاح "البدائية" هو واحد من هذه الاصطلاحات الجامدة. إن هذه الكلمة ضارة تربك، وتمنع الفهم الصحيح، ولا تطابق أي شيء في الواقع، وتقف حجر عثرة في سبيل تقدمنا في فهم المتغيرات الهائلة التي يمثلها الإنسان في تنوعاته الكثيرة.إني لن أستبق هنا ما سيتكرر قوله في متن الكتاب حول عيوب مفهوم "البدائية" فمنذ عدة سنوات وجدت أعداد متزايدة من علماء الأنتروبولوجيا وغيرهم إن هذا المفهوم غير مقبول. وكنت أنا شخصيا بدأت حملة عن هذا الاصطلاح سنة 1945 في بحث أعيد نشره في هذا الكتاب بشكل منقح. كما إن الاصطلاح تعرض لنقد متزايد من قبل عدة أوساط أنثروبولوجية خلال الأعوام الأخيرة. وقد بدا لي إن من المفيد، من جوانب عديدة أن تجمع هذه الانتقادات معا ضمن مجلد واحد.