سأحاول في هذا الكتاب أن أتتبع تطور الأفكار عن الوسواس القهري تتبعا تحليليا، قدر استطاعتي، كما سأحاول أن أضع القديم الذي يخصنا مع الجديد الذي نحن أجدر به، على الرغم من تعثرنا المعاصر في ركب العلم الدنيوي الحديث. وكان من الممكن أن أضع القديم وحده في باب خاص، لكنني رأيت أن علينا في هذه السنوات بالتحديد من عمر منطقتنا العربية أن نرى...
قراءة الكل
سأحاول في هذا الكتاب أن أتتبع تطور الأفكار عن الوسواس القهري تتبعا تحليليا، قدر استطاعتي، كما سأحاول أن أضع القديم الذي يخصنا مع الجديد الذي نحن أجدر به، على الرغم من تعثرنا المعاصر في ركب العلم الدنيوي الحديث. وكان من الممكن أن أضع القديم وحده في باب خاص، لكنني رأيت أن علينا في هذه السنوات بالتحديد من عمر منطقتنا العربية أن نرى كل الأشياء في الوقت نفسه، نعم إنه قدر المثقفين الحقيقيين في زماننا هذا، وفي مكاننا هذا، أن يفتحوا عيونهم ناظرين في كل اتجاه ومن كل اتجاه، لأنهم ببساطة يعيشون زمن التسارع ناحية التيه العلمي المادي، وقصدت "التيه " بمعنييه: التيه بمعنى الغرور، أي أن تتيه بنفسك، والتيه بمعنى التيهان أي أن تضل الطريق (مجد الدين الفيروزبادي 1938) "لكنه في الوقت نفسه أعظم من أن يكف أحد عن السعي خلفه، ولذلك فالمثقفون العرب ساعون وراءه، لأنهم يريدون أن يكون لهم وجود على ساحة عالمية هم جديرون بها، لكي يستطيعوا احترام أنفسهم و"أكل عيشهم أيضا" "لكنهم في الوقت نفسه يريدون أن يؤدوا واجبهم نحو أهلهم بشكل يليق بهم كعرب أيضا، لهم ما لهم من عمق ومن جذور في التعامل مع الوجود الذي أوجدهم الله فيه. أما عن السؤال الذي يشغلني فهو عن الخط الذي أنوي السير فيه في هذا الكتاب، فأنا لا أدري هل ألتزم الحيدة العلمية الباردة، فأكون بمنزلة من يترجم فكرا غربيا إلى العربية؟ أم أترك نفسي لكي تتفاعل مع ما تعلمته وما استقرأته خلال حياتها؟ لكنني قررت في نهاية الأمر أن أكتب هذا الكتاب بالطريقة نفسها التي أمارس بها مهنتي، وهي الطب النفسي، بمعنى أنني لا يستطاع أن أكون باردا أبدا، وكل ما عدا ذلك يستطاع. فقد أكون العالم وقد أكون الشيخ وقد أكون الصديق وقد أكون الطبيب، وقد أكون الذي لا يدعي العلم وقد أكون الذي يدعيه وهكذا هو الطب النفسي العربي الإسلامي، كما أراه، ولينظر كل بعينه، وليعترف بتحيزاته. أنا لذلك أعترف بأنني درت على فصول و مزالق ونتوءات هذا الكتاب، كما يدور في حياة مرضاه كل طبيب نفسي يحب مهنته، وأنا أيضا وضعت ما يزيد على العشرين خطة لهذا الكتاب، ولم أرس على خطة بعد، حتى وقت كتابة هذه السطور، فأنا في البداية كنت أريد كتابة كتاب عن اضطرابات نطاق الوسواس القهري، إلا أنني فوجئت بأن حجم الكلام الذي يجب أن يقال عن اضطراب الوسواس القهري وحده، خاصة عندما يتعلق الأمر بالمقابلة التي أريد عقدها بين تراثنا العربي الإسلامي الخاص بالوسواس وبين معطيات العلم الغربي الحديث، لهو أكبر من أن يوضع في كتاب واحد، إلا أن أختصر قدر الإمكان. ونويت إن وفقني الله أن أتبع هذا الكتاب بكتاب آخر عن اضطرابات نطاق الوسواس القهري التي هي مجموعة اضطرابات بينهما القديم وبينهما الموصوف حديثا وتختلف كثيرا فيما بينها، إلا أنها تتفق مع الوسواس القهري في الكثير من النواحي كالعامل الوراثي والأعراض والاستجابة للعلاج وغير ذلك. كما نويت في فترة أن أجعل الكتاب موجها إلى القارئ العربي المثقف من دونأن يشترط إلمامه ببعض المعلومات عن الطب النفسي، لكنني وجدت نفسي في بعض الفصول أوجه الكلام للأطباء النفسيين المسلمين، كما أنني غيرت مواضع الفصول، وأضفت وحذفت، لأنني على ما يبدو كنت أتعلم عن الوسواس القهري في الوقت نفسه الذي أكتب فيه الكتاب عنه. أعترف من دون أن أدري فيما يبدو بأنني لم أكتب الكتاب بالترتيب، فأنا كتبت هذه المقدمة مثلا على أربع أو خمس مراحل، ولم أكن موسوسا أبدا إلا بقدر ما أنا موسوس في كل شيء يأخذني أخذ قوي مقتدر فأهتم به، ولم أكن أكتب هذا الكتاب إلا وأنا أطير من قراءة بحث عربي إلى قراءة بحث غربي، إلى انتهاز فرصة للقاء بأي من أساتذتي أو زملائي، محرر أسئلتي عن الوسواس وعن أفضل ترجمة لكلمة نفهمها جميعا بالإنجليزية ولا نستطيع أن نحدد لها معنى عربيا إلا بعد تفكير عميق وتدوير سحيق في ثنايا الدماغ وكثيرا ما نهرب من الإجابة أو ننصح بعضنا بالكف عن وجع الدماغ، لكنني قط ما نويت الكف عن وجع الدماغ، فهو أفضل طريقة للدماغ ليحيا في هذا العالم.يبدو أنني لن أكتب شيئا في هذه المقدمة عن فصول الكتاب، مع أنني كنت نويت ذلك، لأنني قررت على ما يبدو أن أترك القارئ ليتعرف على الكتاب ويصفه بنفسه، لكنني فقط أريد الإشارة هنا إلى فصل "قياسات الوسواس القهري " وفصل "مفاهيم كانت ومفاهيم ما زالت" وفصل "تشريح المعاني "، وكذلك إلى فصل "اضطراب الوسواس القهري بين الاضطرابات النفسية الأخرى"، فهذه الفصول الأربعة في اعتقادي تهم الطبيب النفسي واختصاصي علم النفس العربي أكثر من القارئ العربي البعيد عن مهنة الطب النفسي أو مجال الصحة النفسية، أما بقية الكتاب فإنها تهم الطبيب النفسي العربي المسلم وغير المسلم والعاملين في مجال الصحة النفسية والقارئ العربي والمريض العربي على حد سواء. وأتمنى أن أكون قد وفقت في وضع أسس التفريق والفصل في أمر الوسواس، بما تعنيه هذه الكلمة وما تستدعيه في وجدان القارئ العربي المسلم من تداخل لمفاهيم الوسواس الخناس و وسوسة النفس و الوسواس القهري و وسواس المرض و وسواس الشك، فهي أمور تتداخل داخل نفوسنا جميعا بسبب ما أزعمه من عدم التوفيق الذي صادف من ترجم كلمة Obsession الإنجليزية إلى كلمة وسواس، نظرا إلى عدم تطابق المعنيين إذا رجعنا إلى المعاجم الإنجليزية/ الإنجليزية والمعاجم العربية/ العربية، كما سأبين في أول فصول هذا الكتاب، وأريد أن أشير هنا أيضا إلى قيامي أثناء الكلام عن الأدوية والعقاقير، التي ترجمت أسماؤها الإنجليزية إلى العربية، باقتراح اختصار عربي لتلك المسميات مثل الم.ا.س.ا بدلا مثبطات استرجاع السيروتونين الانتقائية ومثل الممامين بدلا من مثبطات مؤكسد أحاديات الأمين ، ولم أجد الكلمة العربية المقترحة إلا أخف على اللسان وأقرب من القلب. ولكي أقول ما لي وما علي، فإنني لم أكن أكتب هذا الكتاب كعالم مسلم، بل كمتعلم مسلم، وأنا أظن كل مسلم في زماننا لا بد أنه يظل يتعلم ما دام يعيش، ولكل حظه من التعب لكي يتعلم! وأتمنى أن أكون قد وفقت في إصابة الهدف الذي أسعى إليه، لأفوز بأجري المجتهد المصيب، وإن أخطأت فمن عندي، وعلى الله الجزاء.