هذا الكتاب بحث تاريخي موثق حول التصوف في الفترة الحفصية بإفريقية. وعندما أقول "تاريخي" فيعني ذلك أن هذه الدراسة ليست بحثاً روحياً حول الحياة الصوفية أو من جهة أخرى سرداً بيوغرافياً للأولياء المشهورين، بل العمل التاريخي الحقيقي الجيد، وهو شأن هذا الكتاب. إنه شيء آخر تماماً، فهو يعتمد على المصادر الأكثر اتساعاً ويأتي بنظرة متعمقة ...
قراءة الكل
هذا الكتاب بحث تاريخي موثق حول التصوف في الفترة الحفصية بإفريقية. وعندما أقول "تاريخي" فيعني ذلك أن هذه الدراسة ليست بحثاً روحياً حول الحياة الصوفية أو من جهة أخرى سرداً بيوغرافياً للأولياء المشهورين، بل العمل التاريخي الحقيقي الجيد، وهو شأن هذا الكتاب. إنه شيء آخر تماماً، فهو يعتمد على المصادر الأكثر اتساعاً ويأتي بنظرة متعمقة وتفهمية لماهية التصوف الإفريقي والتحامه بالمجتمع ودوره السياسي والإنساني عامة.إن كتاب نللي سلامة العامري يدخل في زمرة تآليف المؤرخين التونسيين الحديثين، وهم الآن من أفضل المدارس في العالم العربي. ففيه الصرامة المنهجية والمقدرة على التحليل والتركيب وطول النفس.المهم أن هذا الكتاب يشفي الغليل في استكشاف ظاهرة التصوف الدينية والاجتماعية التي طالت كل العالم الإسلامي. وبالرغم من اتساع المشهد، فإن المؤلفة اتخذت طريق الدقة والصرامة: فلم يكن من السهل أن يقرأ المرء كل المصادر وأغلبها لا يزال مخطوطاً، ولا أن يطلع على كتب المناقب في كليتها وعلى مصادر التاريخ الحفصي عامة. وقد يغرق الباحث في بعض الأحيان في منطق مصادره، إلا أن المؤرخ الصميم هو الذي يحسن توظيفها في خطاب تاريخي ذي معنى. وهذا في الحقيقة ما قامت به الدكتورة نللي سلامة العامري.فقد فسرت للقارئ الوضع التاريخي العام، وعرفتنا بأن مؤسسة الزاوية أمر جديد برز في القرن الثالث عشر وشهد ذروته في القرن الرابع عشر م، كما أنه يوجد فرق بين التصوف في ا لمساجد وفي الرباطات وبين تصوف الزوايا المهيكل بصفة خاصة.ولقد عرفتنا المؤلف لتركيبة الزوايا وتناولت دراستها ودراسة الأولياء على امتداد المساحة الإفريقية.وواضح أن بين أية ظاهرة دينية والمجتمع علاقة متينة لكنها تتطلب الاعتقاد والتصديق من طرق عدد وافر من البشر. فالولي ليس رئيس مدرسة فلسفية بل هو يدخل في أعماق المجتمع بجميع فئاته، بما في ذلك العلماء. وبالتالي فهو يؤثر على الواقع الاجتماعي في جوانب عديدة: بالدور المشع للزاوية وانفتاحها على الناس ولكن أيضاً كملجأ يلجأ إليه في الأزمات الفردية والجماعية. وهذه هي كاريزما الوالي التي درستها المؤلفة بكل تفهم أعني بعقلانية متفتحة. ولقد حاولت أيضاً البحث في علاقة الولي بالسلطان. ويبدو هنا أن المتصوفة لم يشأوا أن يلعبوا دوراً سياسياً حقيقياً كالفرق القديمة في الإسلام وإنما أثروا على السياسي في سلوكه المطبوع بالعنف كما أثروا على فئات الأعراب المهتاجة وهذا على أرضية المعتقد والكاريزما الاجتماعية.التحليلات في هذا الكتاب عديدة لا تحصى ومنمطة، والقارئ إذا ينغمس فيه يصعب عليه الخروج منه لما ينطوي عليه المؤلف من ذكاء ووضوح في التعبير.