لم تعرف مصر الحديثة شخصية سياسية قبطة فذة أخرى بحجم ووزن مكرم عبيد. فرغم الأقطاب قد اندمجوا اندماجاً كاملاً في حياة مصر السياسية منذ فجر النهضة الحديثة، ورغم أنهم أسهموا بقسط واف في كل المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية على قدم المساواة مع إخوانهم المسلمين، إلا أنه لم تظهر من بين صفوفهم قيادة سياسية شعبية كازنية مثل مكرم ...
قراءة الكل
لم تعرف مصر الحديثة شخصية سياسية قبطة فذة أخرى بحجم ووزن مكرم عبيد. فرغم الأقطاب قد اندمجوا اندماجاً كاملاً في حياة مصر السياسية منذ فجر النهضة الحديثة، ورغم أنهم أسهموا بقسط واف في كل المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية على قدم المساواة مع إخوانهم المسلمين، إلا أنه لم تظهر من بين صفوفهم قيادة سياسية شعبية كازنية مثل مكرم عبيد. لقد ظهر من بينهم وزراء وحتى رؤساء وزراء مرموقين وحتى كتاب ومفكرون لامعون، ولكت مكرم عبيد يظل ظاهرة متفردة بين هؤلاء جميعاً طوال هذا القرن.ولعل من مناقبه العديدة التي أعطته هذا التفرد هو أنه كان رائداً وضميراً لشعبه المصري، ولأنه جمع في شخصه وفكره وسلوكه بين الأصالة والمعاصرة وبين وطنيته المصرية الصحيحية وانتمائه العربي القوي. لم تكن وطنية مكرم عبيدى استثناء في جيله، فقد كان واحد من عشرات الآلاف الذين تشربوا الروح الوطنية في طفولتهم، وعبروا عنها سلوكاً في سبابهم، حينما انخرطوا في صوف الحركة الوطنية وثاروا مع الثائرين في عام 1919 تحت قيادة سعد زغلول.ولكن مكرم عبيد يتفرد عن معظم جيله في أنه فهم وأحس بهذه الوطنية في سياقها الأوسع، الذي يتجاوز مجال السياسة إلى مجال الثقافة والعدالة والاقتصاد، وكانت خطابات مكرم عبيد التي ينشرها هذا الكتاب خير دليل على شمولية نظرة واطلاعه السياسي والاقتصادي والثقافي والعدالي. أما عروبة مكرم عبيد فقد عبر عنها الرجل في وقت مبكر جداً، وسبق في ذلك إنشاء الجامعة العربية بحوالى خمسة عشر عاماً.ففي عام 1931، قام مكرم عبيد بجولة طويلة في المشرق العربي زار فيها فلسطين وسوريا ولبنان، واستقبل هناك استقبالاً شعبياً حافلاً، وتحدث في هذه الاستقبالات بلغة لم يتحدث لها أي سياسي مصري من قبل في ذلك الوقت، لقد تحدث عن الحرية والاستقلال والتنمية وضرورة الوحدة وربط بين العناصر الأربعة ربطاً وثيقاً. هناك الكثير الذي يمكن أن يقال عن عبقرية ومآثر مكرم عبيد المصري العربي التقدمي، ولكن لا أحد يستطيع أن يقول عنها أو فيها خير من مكرم عبيد نفسه فكتاباته وخطبه تنطق بهذه العبقرية وبتلك المآثر.وفي هذا الكتاب كم من هذه المكرميات أو الخطب والرسائل والمحاضرات، وهي بما تطرحه من مفاهيم وأفكار لخير دليل على مسيرة مكرم عبيد السياسية والفكرية وخير متحدث عن أطوار حياة هذا الرجل السياسي ومواقعه الفكرية ورؤاه الاجتماعية.