إن مسار الكتابة لدى الشاعر اللبناني شربل داغر أشبه ما يكون بِحكاية، يتحدّد بدؤها الأوّل بدهشة الطفل، الّتي سرعان ما أثمرت رغبةَ الحلم الرومنسيّ في أحضان طبيعَة بدائيّة، بمعنى الاكتشاف الأوّل، حادثةً بدلالة الوعي المختلف.وعند تراكُم الخبرة حدثت ولادة الشاعر الثانية. إلاّ أنّ هذه الولادة هي ولادة موجود (étant ) مختلف، رافدة للوجود...
قراءة الكل
إن مسار الكتابة لدى الشاعر اللبناني شربل داغر أشبه ما يكون بِحكاية، يتحدّد بدؤها الأوّل بدهشة الطفل، الّتي سرعان ما أثمرت رغبةَ الحلم الرومنسيّ في أحضان طبيعَة بدائيّة، بمعنى الاكتشاف الأوّل، حادثةً بدلالة الوعي المختلف.وعند تراكُم الخبرة حدثت ولادة الشاعر الثانية. إلاّ أنّ هذه الولادة هي ولادة موجود (étant ) مختلف، رافدة للوجود الطبيعيّ البَدْئيّ، إذ سرعان ما أنشأت عالماً جديداً، صِيغَ بالحروف والذكريات والمشاهد المتخيَّلَة، وأطيافِ صُوَر ضاربة في قِدَم زمن الأحضان الأولى، وخيالاتِ حياة الرضاع حيث بدَائيّة الاسم، الذات، الأنا، الشخص، الشخصيّة، الجسد الكاتب والمَكتوب، بمختلف طاقاته وقُواه وأبعاده...كذا بَدْء الحكاية في تاريخ شربل داغر/الموجود الّذي تزامن وَبَدْء الفرار من ذاكرة البدايات واليُتْم الكارثيّ الأوّل (فطام المشيمة، ثمّ فطام الرضاع) إلى طبيعة المكان، ومنها إلى زمن الشعر. لذلك راهنت الكتابة الشعريّة، منذ لحظات الوعي الكِتابيّ الأولى، وفي اللاّحق، على نقيض الذاكرة باندفاع الطّفل الثائر وُجوداً، المتردّد بين التمرُّد على الآخر (الأمّ)، وبين الحُبّ العميق الجارف لَها ،ولِلُغة الكتابة، آنَ المراهنة الجَسُور على "ما وراء اللغة" و"ذاكرة النسيان".يقول داغر:"تلدني كلماتيبما لا يسعه قماطي".وإذا الكتابة الشعريّة، منذ تشكّلاتها الأولى لدى شربل داغر، فرار من اللغة إلى اللغة، ومن الشعر إلى ما وراء العادة، ومن القصيدة إلى الشعر، ومن الشعر إلى الشعريّ: هذا الذي به يكون الشعر شِعْراً، لأنّ الّذي حدث قد حدث باسم اللّغة، باسم منطق الاجتماع والتداوُل، وبحُكْم الفرع الّذي حَلّ مَحَلّ الأصل، والاستثناء الّذي تقادم فأضحى "قاعِدة" آيِلة، هي الأخرى، كغيرها من القواعد والاستثناءات، إلى مقبرة العدم الهائلة.أليس الفطام الأوّل، ثمّ الثانِي، بهذا المعنى، إعلاناً مُشتركاً ما قبليّاً للموت الماثل في الوجود ذاته، وللهلاك القادم المُؤجَّل؟!فالكتابة الشعريّة، بهذا المنظور، إحالة دائمة على زمن شبه مُطلق، هو مجمل خبرة الذات الشاعرة في الوجود. لذلك يتنازع فِعْل الكتابة قتام الوضعيّة القديمة والحادثة المُضْمَر وإرادة الأمل والحلم بالشعر عند رفض العادة والتكرار. فكان الالتزام بحداثة الشعر، وتحديداً "القصيدة بالنثر".وإِنْ بحثنا في مُعْلن الكتابة بظاهر بناء النص، ومُنكشف معناه، بدت اللحظة أساساً ومرجعاً، كأن تتصيّدها الذات الشاعرة، وتستأصلها من لحم الكيان، كي تعمل على تسكينها بَدْءاً ثمّ شحْنها بِرُوح حياة جديدة مُتوهّجة.وإنْ خُضنا أيضاً في العالم الجُواني، بَدَا الانتقال من رقيق اللحظة وشفيفها إلى كثافة الزمن، هذا النهر العظيم الهادر حيث تتجمّع كُلّ الوُجودات السالفة والحادثة، المتحقّقة والمُمْكنة. لذلك يتّصف النص الشعري الداغري، عند قراءة مختلف الأعمال، منذ "فتات البياض" (1981) وإلى "لا تبحث عن معنى لعلّه يلقاك" (2006)، بمُمارسة "اللعب الجادّ"، بلغة هانس جورج غادامير (Hans Georg Gadamer ) في تسمية العمل الفنّي، إذ يُكسب اللاّ-معقول بعضاً من المعنى، ويُحوّل الوجود-الكارثة من وطأة جحيم الوضعيّة إلى إمْكانٍ للأمل، للحُلم بالرغْبة وإرادة الرغبة، كما أسْلفْنا.فليس الوجود، في منظور شربل داغر الشعري، وتبعاً لمُجمل نصوص الكتابة، عبثاً محضاً، بل هو العدم يستلزم من الموجود فِعْلاً. ولأنّ هذا العدم، الفراغ، الخواء خضمّ هائل من الصدفة واللاّ-مُنْتظر والمجهول فإن الفعل، كما يتحدّد بَدْءاً وفي الأثناء بالكتابة، أشبه ما يكون بتخبّط أعمى في ليلٍ مُعْتم يستبدّ بالحالات والوقائع، إذ تبدو كينونة الموجود الشاعر موسومة في كلّ المواطن والمواقف "بالعمى"، واللّغة عجزاً آخر يشي بعجز اللّغة ذاتها، وعجزِ الموجود أيضاً عن تسمية ذلك المُعمّى الغامض الطيفي. فلا إبانة ولا إغماض بِلُغة الشعر، ولا إرواء للرغبة ولا إنهاء، بل هو فعل الكتابة والموجود يستدعي فعلاً آخر، بل أفعالاً، إلى آخر لحظة في عُمُر الكائن.وما الشعر، بهذا السعي الإشكالي إلى الإبانة والإغماض، إلاّ تدرُّب خاصّ على التذكّر والنسيان مَعاً، وممارسة الموت الذاتي بفَضْح كارثة الوجود، ومهزلة الهلاك المُؤجَّل الماثل في مغالبة واقع الفناء. وما الشعر أيضاً إلاّ انتهاج واعٍ لسبيل الإفناء عند ممارسة حرّية التماهي مع أقصى حالات تَبَدُّد الذات بالشعر، وفي الشعر، ومن أجل "الغيريَّة" باعتبارها، في الأصل والأساس والمرجع، عشقاً ذاتياً منفتحاً على الآخر الجاذب حيناً، والنابذ أحياناً، الحريص على التموقُع والمغامرة أيضاً في السفر، وبالسفر، عند الفرار من المكان إلى المكان، أو نُشدان اللاّ-مكان عبر تغاير الأمْكنة في الظاهر، وتشابهها، أو تماثلها بالتداخُل في عميقِ الحال الشاعرة.أليست الزمانيّة، في معرض هذه النصوص، ذلك الوجه الآخر للشعر، بدلالة الشعري، وبالمتعدِّد الفنّي الّذي يتحدّد بالقصيدة، ومُختلف أجناس القول الأدبي وتغايُر الفنون؟ونتيجةَ السعي إلى مقاربة المفتقَد القديم (طفولة الاسم)، وتجسيد حال الفقدان لما انقضى، ولما لا يمكن أن يُسْتعاد، تُمسي الكتابة استعارة أمّاً تنشأ بَدْءاً، لتتولّد عنها كل الاستعارات، بحدوث الكتابة ذاتها وإمكان القراءة/القراءات. لذلك أمكن الجزم بأن كتابة الشعر، في منظور شربل داغر، آثار دالّة على معنى العبور، لا تعني واحديّة القصد والأسلوب والاتجاه، وإنّما هي التعدُّد اقتضتْه حال الموجود وَوَضْع الوُجود. فلم يختَرْ مسطور السُبُل، بل ضرَبَ كالأعمى في ليل العتمة، ليطُوّف في أقاصي الحرف، ويُخوّض في تلافيف اللون، ويجرّب ألوان اللغة الممكنة داخل معتاد اللّغة، مروراً من الشعر إلى الرسم، وَعَوْداً إليه، ويخترق المواطن المشتَركة والمختلفة بين الفنون واللّغات، بمُحاولة الترجمة، رغم الإقرار المبدئي باستحالة ترجمة الشعر في الواقع الكينوني.إن القصد من هذا الكتاب هو محاولة البحث في أدق خصوصيّات التجربة الشعريّة لشربل داغر، بمتعدِّد ثوابتها ومتحوّلاتها، لبيان المتكرّر والمختلف، عند استقراء المتراكم من النصوص، والنظر في ما أمكن اعتباره علامات إبدال، بما ينمو ويتعاظم ويتفكّك ويَتَبَنْين، مراراً ودون تكرار، في الداخل، آنَ سعينا القرائي إلى تمعين (من معنى) ما لا يتحَدّد بمعنى جاهز، وتسكين المتحرّك، وتوحيد المتعّدِد، بدافع الرغبة في تسمية اللاّ-مُسَمّى وتنسيب المطلق وتحديد المُنفلت عن ثابت الماهيّة ومستقرّها، شأن كُل القراءات، دون استثناء.وهي وقفة لازمة في شعر شاعر له صوته المختلف والمجدد في الشعر العربي الحديث، منذ خمس وثلاثين سنة، فاعتبره الشاعر بول شاوول "خارج الأسراب"، وتعامل الشاعر محمد علي شمس الدين مع قصيدته على أنها "قصيدة ما بعد-حداثية". وهو اهتمام بشعره تعدى نطاق المتابعات والدراسات النقدية والأكاديمية، هنا وهناك، إذ تحلق حول قصائده، فضلاً عن ترجمات عديدة لشعره، فنانون وفنانون، في استلهامات تشكيلية ومسرحية لقصائده، من دون أن أغفل طبعاً دور داغر النقدي اللافت في درس الشعر الحديث وغيره.إلاّ أن مقاربتنا التأويليّة، هنا، حريصة، عند الاستفادة بفلسفة التأويل والعمل بِقيمة الحواريّة، على المُؤالفة، قَدْر الإمكان، بين ذات النص وذات قارئه بمُشتَرَك الموضوع الّذي هو كتابة تستدعي قراءة، وقراءة تُنشئها الكتابة ذاتها، فتستضِيء بها وتختلف عنها لِحتميّة التباعُد الزمني والكينوني بينهما.هذا، وقد نُنجزُ بمقاربتنا بعضاً من وهج القراءة بُغْيَةَ تحقيق التواصُل بين الذاتيْن المُتغايِرتيْن القادرتيْن على التحاور والاختلاف. لذلك ترفض هذه المقاربة إعلان سلطة لها على النص، ولا تدّعي أيضاً إنشاء نص على نص، بل هي مجرّد اقتراح لِفهْمٍ ما قد يُضِيءُ بَعْضاً من العتمة، أو يفتح مواطن الضوء المكتشفة على ما هو أبعد في العتمة، بمُساءلة الابتداء والانتهاء الّذي هو ابتداء لقراءة/قراءات قادمة ومشروع لِفهمٍ آخر مُختلف.("تصدير" كتاب الدكتور مصطفى الكيلاني: "شربل داغر: الرغبة في القصيدة"، دار شرقيات للنشر والتوزيع، القاهرة، 2007، صص 9-15).