لرحلة الحجازية التي نقدمها اليوم تأتي في مجملها على نسق الرحلات التي كتبها الحجاج المسلمون عبر العصور، سواء من حيث الاهتمام بالمراكز العلمية التي يمرون بها، والتعرف على رجال الفكر الذين يلقونهم والتعريف بهم، أو من حيث الاستمرار خلال السفر في عملية التدريس والتأليف والحوار، والأخذ والعطاء، والإفتاء والإرشاد والتربية الروحية إن كا...
قراءة الكل
لرحلة الحجازية التي نقدمها اليوم تأتي في مجملها على نسق الرحلات التي كتبها الحجاج المسلمون عبر العصور، سواء من حيث الاهتمام بالمراكز العلمية التي يمرون بها، والتعرف على رجال الفكر الذين يلقونهم والتعريف بهم، أو من حيث الاستمرار خلال السفر في عملية التدريس والتأليف والحوار، والأخذ والعطاء، والإفتاء والإرشاد والتربية الروحية إن كانوا فقهاء أو متصوفة.قطع المؤلف خلال هذه الرحلة مسافات برية طويلة استأثرت بمعظم ما حواه الكتاب، وأخرى بحرية مرّ عليها مرور الكرام، ولم يسجل عنها في سطور سوى عدد الليالي الني قضاها في السفن التي أقلته من الرباط إلى جدة ومنها إلى الدار البيضاء. واستغرقت الرحلة ست سنوات وثلاثة أشهر، إذ خرج المؤلف من مسقط رأسه قرية ولاتة المتاخمة لبلاد السودان يوم 7 رجب 1311/14 يناير 1894، ولم يرجع إلى الصحراء ويلق عصا الترحال بقرية أروان إلا يوم 6 شوال 1317/7 يناير 1900.وهكذا فقد سرد المؤلف في متن رحلته هذه تسلسل الأحداث ومراحل الطعن والإقامة في الرحلة تسلسلاً كرونولوجياً دقيقاً منذ خروج المؤلف من مسقط رأسه إلى رجوعه إلى أروان، يتخللها ذكر الطرق والمنازل والأشخاص الذين لقيهم، سواء منهم العلماء والطلبة والحكام والموظفون والتجار على اختلاف درجاتهم. كما تندرج أثناءها نصوص شعرية ونثرية تطول أحياناً حتى تكاد تنسي موضوع الحل والترحال. وإذا تركنا هذه النصوص جانباً فإننا نجد في الرحلة فوائد تاريخية واجتماعية ودينية كأخبار كليميم بالسوس الأقصى، وحكامها آل بيروك وما كان بها من حركة علمية وعمرانية في أوائل القرن الرابع عشر، وآل الشيخ أحمد بن موسى السملالي في تزروالت بالأطلس الصغير في فترة تاريخية دقيقة تلت وفاة الحسين أو هاشم الذي كان له ضلع كبير في أحداث المغرب عامة وسوس بصفة خاصة، ومدينة الرباط ورجالات الطريقة التجانية بها ممن أغفلتهم كتب التراجم، وكبار رجال المخزن الذي لقيهم، وبلاد السلطان عبد العزيز الذي حظي المؤلف بالمثول بين يديه في الذهاب والإياب. كما تلقي الرحلة أضواء عن النشاط العلمي المتميز بالإسكندرية والقاهرة، وهيآت التدريس بهما، وحركة الطباعة المزدهرة، التنويه بعشرات الأسماء من ذوي العلم والفضل والنسك واليسر، وفي مقدمتهم كبير العلماء والمفتيين الشيخ سالم أبو حاجب، ومفتي باش حسين، وعلال النيفر. ونجد هنا قوائم طويلة للكتب التي أهديت للمؤلف من طرف هؤلاء، مخطوطة ومطبوعة، تفوق ما أهدي إليه في مصر.ولعل أهم محتويات الرحلة هو القسم الرابع المتعلقة بالحرمين الشريفين. فقد اعتمر المؤلف وحج متحرماً في كل أقواله وأفعاله ما تواتر عن النبي صلى الله عليه، من قول وفعل، مستفيداً من معرفته الواسعة بالكتاب والسنة وحفظه الغزير واستحضاره الغريب للآيات الكريمة والأحاديث الشريفة في كل المواقف والمشاهد. ثم زار الروضة الشريفة بالمدينة المنورة وجاور بها أربعة أشهر، واقفاً على المآثر الإسلامية في البقيع وأحد ومنازل الصحابة، مستمداً من علمه بالسيرة النبوية وتاريخ الإسلام. وما أحرى هذا القسم من الرحلة أن يطبع على حدة كدليل للحج السني.