لعل المتتبع لمسار حركة التوحيد والإصلاح لا يمكن أن يخطئ إحدى الملامح التي ميزت هذه الحركة ألا وهي أنها نتيجة مسار مراجعة فكرية وتصورية متواصلة أكسبتها عدة خصوصيات أثارت انتباه عدد من المراقبين من الحركات الإسلامية في البلدان العربية والإسلامية . فهي أولا نتاج اندماج بين حركتين إسلاميتين سابقتين : هما حركة الإصلاح والتجديد ورابطة...
قراءة الكل
لعل المتتبع لمسار حركة التوحيد والإصلاح لا يمكن أن يخطئ إحدى الملامح التي ميزت هذه الحركة ألا وهي أنها نتيجة مسار مراجعة فكرية وتصورية متواصلة أكسبتها عدة خصوصيات أثارت انتباه عدد من المراقبين من الحركات الإسلامية في البلدان العربية والإسلامية . فهي أولا نتاج اندماج بين حركتين إسلاميتين سابقتين : هما حركة الإصلاح والتجديد ورابطة المستقبل الإسلامي . وكلا الحركتين قد بلورتا قبل التئام شملهما عدة اجتهادات الاجتهادات فكرية وتصورية وتنظيمية وحركية تميزت بها عن بعض الأدبيات التي كانت سائدة في الساحة التي كانت مصطبغة في العموم بتراث الإخوان المسلمين حيث عملتا على ملاءمة ذلك التراث الذي لا يمكن إنكار فضله عليهما مع الواقع المغربي منتجة بذلك توجهات حركية إسلاميةعلى قدر معتبر من الخصوصية المغربية . كما كان الاندماج بين الحركتين فرصة لإعادة النظر في كثير من المقررات السابقة للحركتين وإعادة بناء منظومتها في التربية والدعوة والإصلاح ونظريتها في التنظيم وفي العمل السياسي والنقابي والاجتماعي والمدني ، وفي العلاقة مع الحقل الديني الرسمي وفي العلاقة بين الدعوي والسياسي وبين الحركي والحزبي . وهي ثالثا اعتمدت النهج الشوري الديمقراطي المؤسساتي الذي يقوم على مبدأ الشورى في اتخاذ القرار والانتخاب والتداول على المسؤولية في اختيار القيادات والمسؤولين على جميع المستويات ، جعل نهج المراجعة آلية بنيوية متواصلة ، حيث إنه لم تخل ولاية من ولاية قيادة الحركة إلا وشهدت عملا يقوم على إعادة تشخيص واقع الحركة الذاتي والموضوعي بفرصه وإكراهاته ، بعوامل القوة وعوامل الضعف فيه ، مما ينتج عنه حتى والحركة قد اعتمدت نهج التخطيط الاستراتيجي التقويم المتواصل وإعادة تصويب الجهود أو إعادة التموقع . وهي رابعا قد نشأت في سياق تاريخي وثقافي وجيوسياسي جعلها بعيدة نسبيا عن كثير من إشكاليات وقضايا المشرق العربي ، وهو ما يفسر نشأتها المتأخرة بالمقارنة مع الحركات الإسلامية المشرقية ، وعلى مسافة تنظيمية من حركة الإخوان من جهة ، مما أهلها كي تأخذ مسافة مع بعض اجتهاداتها وتتخذ مسافة فكرية بسهولة أكبر مع بعض الخطاطات الجاهزة في التفكير الحركي المشرقي. من إقامة الدولة إلى الإسهام في إقامة الدين : هيمنت إشكالية إعادة بناء الدولة الإسلامية بشكل كبير في تراث الحركة الإسلامية في المشرق . وعلى الرغم من أن تراث الإخوان المسلمين وخاصة عند مرشد الجماعة الأول الأستاذ حسن البنا قد ركز على التأكيد على شمولية فهم الإخوان وأنهم " دعوة سلفية، وطريقة سنية، وحقيقة صوفية، وهيئة سياسية، وجماعة رياضية، ورابطة علمية ثقافية، وشركة اقتصادية، وفكرة اجتماعية" ، فإن قضية إعادة بناء الدولة الإسلامية اعتبرت الهدف الأساس الذي تشتغل من أجله الحركة الإسلامية ، كما أن باقي الأهداف والأعمال الأخرى بما فيها العمل الدعوي والتربوي والتكويني قد نظر إليها فقط على أنها إنما خادمة لهذا الهدف المركزي وطريق موصل إليه يقول الإمام البنا في رسالة (بين الأمس واليوم): "اذكروا دائمًا أن لكم هدفين أساسيين: أن يتحرر الوطن الإسلامي من كل سلطان أجنبي؛ وذلك حق طبيعي لكل إنسان، لا ينكره إلا ظالم جائر أو مستبد، وأن يقوم في هذا الوطن الحر دولة إسلامية حرة، تعمل بأحكام الإسلام وتطبق نظامه الاجتماعي، وتعلن مبادئه القويمة، وتبلغ دعوته إلى الناس" . أما مجالات العمل الإسلامي الأخرى فما هي إلا محطات أو مراحل نحو الهدف المذكور . فبناء الفرد المسلم والبيت المسلم والشعب المسلم والحكومة المسلمة والأمة الموحدة ما هي إلا محطات نحو إعادة بناء مجد الامبراطورية المسلمة التي أقامت العدل بين الناس كما يصرح بذلك الأستاذ حسن البنا في رسالة : " إلى الشباب " . على هذا المستوى عملت حركة التوحيد والإصلاح منذ مدة على إقرار مراجعة عميقة في بنائها التصوري والمنهجي حيث أحدثت ما اعتبرته في هذه الدراسة او الكتاب ، بإحداث تحول شبيه بالثورة الكوبيرنيكية ، حيث إنها انتقلت الحركة من مركزية إقامة الدولة أو إقامة دولة الخلافة كما كانت سائدة في الفكر الحركي في الشرق ، إلى مركزية إقامة الدين . حيث قررت في وثائقها المؤسسة أن من بين مقاصدها " الإسهام في إقامة الدين وتجديد فهمه والعمل به، على مستوى الفرد والأسرة والمجتمع والدولة والأمة وبناء نهضة إسلامية رائدة وحضارة إنسانية راشدة، ، كما التزمت منهج التدرج والحكمة والموعظة الحسنة، والتدافع السلمي، والمشاركة الإيجابية والتعاون على الخير مع غيرها من الأفراد والهيئات". معتبرة أن الإسهام في إقامة الدين يكون في كل مجال من هذه المجالات ، وأن كل إقامته في كل مجال من المجالات المذكورة هو هدف في حد ذاته من مفهوم الجماعة إلى مفهوم الحركة ، من وحدة التنظيم إلى وحدة المشروع لقد تميزت حركة التوحيد والإصلاح في سعيها لإقامة الدين وإصلاح المجتمع بوعيها بأن كَوْنَ الإسلام دينا شاملا لكل نواحي الحياة لا يستدعي بالضرورة أن يكون العمل لإقامته من خلال تنظيم شمولي مركزي بهيكلة هرمية محورية، بل اختارت أن تجعل من إقامة الدين وإصلاح المجتمع هدفا تلتقي حوله مؤسسات وهيئات مستقلة تنظيميا تجمعها شراكة استراتيجة في إطارخدمة نفس المشروع. وهو ما اصطلحت عليه "وحدة المشروع بدل وحدة التنظيم". إن كلمة " الإسهام " في إقامة الدين تبين أن عمل الحركة يندرج في إطار جهود لا يفي بها عمل الحركة لوحده بل وجب استثمار والتعاون في تلك الإقامة على كل ممكنات المجتمع وطاقاته ، كما وجب التكامل مع جهود الآخرين من حركات إسلامية وفاعلين في المجال الدعوي والحقل الديني من المؤسسات الرسمية والأهلية . يترتب على ذلك أن الحركة قد خرجت من ضيق مفهوم " الجماعة " الخالصة المخلصة إلى مفهومالحركة ، ثم إلى مفهوم الأمة ، ومن التمحور حول التنظيم إلى التمحور حول الرسالة ، ومن وحدة التنظيم إلى وحدة المشروع . نهج التخصص و لقد ترتب على ذلك أن أعادت الحركة النظر في وظائف التنظيم ، حيث لم يعد التنظيم الحركي الهرمي المغلق هو الإطار الذي تصب فيه أنشطة الحركة . لقد غذت الحركة في تحقيقها لأهدافها منفتحة على كفاءات وإطارات مجتمعية . ومن أجل ذلك اعتمدت الحركة نهج سياسة التخصصات، بالعمل على تأسيس عدد من المنظمات والمراكز والمنتديات والجمعيات المتخصصة،أو دعم القائم منها في مختلف المجالات، على أساس أن تكون مستقلة عن بعضها البعض من الناحية التنظيمية، لكنها تحمل نفس الرسالة وتخدم نفس المشروع بشكل متكامل ومندمج. تربطها بالحركة علاقة تعاقد على الأهداف المشتركة في مجالات تخصصها وذلك مثل العمل النسائي، أو العمل الطلابي، أو العمل الطفولي، أو العمل الاجتماعي... وبالمقابل قررت الحركة عقد شراكات استراتيجية مع هيئات مستقلة قائمة في المجال السياسي والنقابي تعزيز مسار التمايز الوظيفي علاقة الدعوي بالسياسي : ومن المراجعات الجوهرية التي أقدمت عليها الحركة أنها أقرت توجها متزايدا وقطعت أشواطا متقدمة في مسار التمايز بين الدعوي والسياسي، على مستوى الوظائف والأشخاص. فخيار التمايز الوظيفي بين حركة التوحيد والإصلاح باعتبارها هيئة دعوية مدنية وبين حزب العدالة والتنمية باعتباره هيئة سياسية تشتغل في مجال الشأن العام، قد أصبح خيارا استراتيجيا تواصل الحركة انتهاجه مع اعتماد نهج الشراكة بينها وبين حزب العدالة والتنمية الذي اتخذته إطار للعمل السياسي لأعضائها . إن مبدأ الشراكة معناه الالتقاء العام في خدمة المشروع الإصلاحي للمجتمع وتحترم مقتضيات الاستقلالية التامة بين الهيئتين.