أبو حيان التوحيدي هو علي بن محمد بن العباس من نوابغ الفكر والبيان ببغداد في القرن الرابع الهجري. وقد اختلف الباحثون في تاريخ ميلاده ومدة حياته, ومحصل كلامهم أنه ولد بين سنتي 310 و320هـ وتوفي بعد سنة 400 وقبل سنة 414هـ على وجه التقريب. واختلفوا في أصله وبلده: عربي أم فارسي؟ شيرازي أم نيسابوري أم واسطي عراقي؟ولكن الباحثين، قديماً ...
قراءة الكل
أبو حيان التوحيدي هو علي بن محمد بن العباس من نوابغ الفكر والبيان ببغداد في القرن الرابع الهجري. وقد اختلف الباحثون في تاريخ ميلاده ومدة حياته, ومحصل كلامهم أنه ولد بين سنتي 310 و320هـ وتوفي بعد سنة 400 وقبل سنة 414هـ على وجه التقريب. واختلفوا في أصله وبلده: عربي أم فارسي؟ شيرازي أم نيسابوري أم واسطي عراقي؟ولكن الباحثين، قديماً وحديثا، مجمعون على أن الرجل كان مفكراً كبيراً، وعالماً محيطاً بمختلف فنون المعرفة، وكاتباً متفنناً بليغاً. إذ أنه كان يملك طاقة أدبية رائعة على تحليل الشخصيات، ورسم الملامح، وتصوير المعائب تصويراً ساخراًن والتعبير عن مختلف الأجواء. وطريقته في رسم الشخص وتحليل نفسيته، والتعبير عن مختلف الأجواء. وطريقته في رسم الشخص وتحليل نفسيته، تعتمد ذكر الحوادث الصغيرة، والوقائع الجزئية، التي لا خطر لها بحد ذاتها، ولكنه ما يزال يجمع هذه الحوادث والوقائع الصغيرة، ويؤلف بينها، ويسوقها الواحدة بعد الأخرى، حتى تبرز للقارئ صورة كاملة حية. ويتجلى ذلك، أروع ما يتجلى، في كتابيه الإمتاع والمؤانسة ومثالب الوزيرين.وكان ثقافته موسوعية شاملة، ومن هنا أهمية كتبه لتاريخ الفلسفة والأدب. فقد جمع في كتابه الضخم البصائر والذخائر، ورسالته في الصداقة والصديق، مختارات رائعة في الفلسفة والفقه والنحو واللغة والشعر، التقطها من بطون الكتب، ومن أفواه المتحدثين، ولولاه لنسيت في غمار ما نسي من علم العلماء، وفنون الأدباء، وأحاديث الناس في عصره.ولا يخفى على القارئ أن كتاب المقابسات الذي بين يدينا يعد من أهم كتبه, ومعنى المقابسات أن يشارك اثنان، أو أكثر، من الناس في محاورة علمية، فيأخذ أحدهم العلم من الآخر، ويعطيه ما عنده من العلم. وفي معاجم اللغة: قبس العلم واقتبسه استفاده. وأقبسه أعلمه. ويستعمل أبو حيان المصدر إقباس واقتباس بمعنى إفادة العلم واستفادته. والكتاب أحاديث ومحاورات فلسفية بين عدد من العلماء والفلاسفة والأدباء سمعها أبو حيان فسجلها. ولكن الكتاب ليس كله محاورات، كما يفيد العنوان.فبعض فصوله مختارات من كتب فلاسفة المسلمين أو من الكتب المترجمة عن الفلسفة اليونانية وشروحها. وبعضها دروس أملاها أبو سليمان المنطقي السجستاني من كتاب أ, صحيفة مدونة. وبعضها آراء أشخاص معينين، رواها مفردة، وهذه الفصول مختلفة المناسبات والظروف والأمكنة. فمنها دروس يلقيها أبو سليمان المنطقي، أو يحيى بن عدي، على التلاميذ، فيسجلها أبو حيان، ومنها أجوبة لأسئلة يلقيها أبو حيان مجلس هؤلاء العلماء فيصغي لحوارهم، ويحفظ ما يثيرون من أسئلة، وما يوردون من أجوبة وحلول، فيسجلها. ومن ذلك اجتمعت له مادة هذا الكتاب.والحاصل أن المقابسات ليست أبحاثاً منظمة في الفلسفة، تعرض فيها الأفكار الفلسفية عرضاً منهجياً مفصلاًن وتستخلص فيها النتائج المقنعة من المقدمات المؤسسة على البرهان الأكيد أو البديهيات الواضحة نفسها. وإنما هي خطرات فلسفية، وأحاديث تدور في حلقة درس، أو مجلس سمر، حول مشكلة من مشاكل الحياة والفكر. وقد اكسبها الارتجال والمشافهة خصائص الحديث المرتجل، فهي تبسط القضايا، وتقتصد في التحليل، وتختطف الأدلة والبراهين الموافقة، وتقصد إلى النتيجة المطلوبة من أقصر طريق، وهدفها، على كل حال، الإقناع والإمتاع. وتحل في المقابسات العبارات الأنيقة، والمترادفات اللغوية، واللماحات الشعرية، والخطرات العاطفية، التي تبتعث في السامع النشوة الصوفية، وتثير فيه هزة الفرح بامتلاك المعقول، وغبطة الوصول إلى الحق، محل الحوار الجدلي الفلسفي الذي تمحص فيه الأفكار، وتتصارع الحجج، وتتولد النتائج من المقدمات ولادة منطقية، خطوة فخطوة.وللمقابسات أهمية خاصة بين كتب أبي حيان. فهي تكشف عن جانب مهم من ثقافته المتعددة الجوانب، وتبين مدى إطلاعه على مسائل الفلسفة، واستيعابه نظريات مدارسها المختلفة، وتوضح فلسفته الخاصة، وهي فلسفة أفلاطونية محدثة، تلتقي مع تصوفه، وتتحد فيه. وهي تطلعنا على نوع القضايا الفكرية التي كانت تستغرق اهتمام المثقفين في بغداد. وترينا حلقات الدرس، ومجالس العلم، وكيف كانت تقدم المعرفة، وتثار الأسئلة، وتستخلص النتائج. وهي تقدم لنا صورة حية لهذا التعاون المثمر بين مثقفين ينتمون إلى ملل دينية مختلفة، مؤمنين وملاحدة ومسلمين ونصارى ويهوداً وصائبة ومجوساً، كانوا يتلاقون في أجواء من التسامح والود، فيتحاورون، ويتجادلون، ويتقابسون العلم والفلسفة والأدب. وفي المقابسات مجموعة كبيرة من التعريفات الفلسفية تؤلف معجماً فلسفياً يكاد يكون كاملاً خاصة للأفلاطونية المحدثة. والمقابسات هو الكتاب الوحيد الذي حفظ أسماء عدد من فلاسفة بغداد ومفكريها، وروى طرفاً من آرائهم وعقائدهم، كالنوشجاني والصيمري والقومسي والنصيبي وغلام زحل. فهو من هذه الناحية، على أقل تقدير، مصدر فريد لجانب مهم من جوانب الحياة الفكرية في بغداد في النصف الثاني من القرن الرابع.وتتناول المقابسات عدداً كبيراً من قضايا الفلسفة في ماهية الوجود، والعقل، والنفس، والطبيعة، والمعرفة والأخلاق. وتثير جملة من القضايا الأدبية التي لها تعلق بالأبحاث الفلسفية، والمنطقية بخاصة، وقضايا اجتماعية ودينية تبحث على ضوء الفلسفة، وتلتمس لها الحلول منها. وهذه نماذج من القضايا التي تثيرها المقابسات: هل الأخلاق طبيعة في غريزة الإنسان أم مكتسبة؟ وما هي سعادة الإنسان؟ وكيف يصف الإنسان إلى تحقيق هذه السعادة؟ وبأي شيء يشرف إنسان على إنسان، ويفضل زمان على زمان ومكان على مكان؟ وما هو الموت العرضي والموت الطبيعي؟ وما السبب في أن السر لا ينكتم البتة؟ولماذا كان المغمض من أرباب الحكمة يدرك بفكره ما لا يدرك المحدث ببصره من غرهم؟ وهل للخواطر والألفاظ والآراء والمقالات نسبة إلى المزاج والطينة والهواء وإلى العناصر بالجملة؟ وهل ما فيه الناس من السيرة، وما هم عليه من الاعتقاد، حق كله، أو أكثره حق، أو كله باطل، أو أكثره؟ وكيف يفعل العاقل الليبي ما يندم عليه؟ ولماذا كانت النفس قابلة للفضائل والرذائل والخيرات والشرور؟وما هو علم النجوم، وما طريقته وفائدته، ولماذا يخلو من الفائدة والثمرة في أكثر الأحيان؟ وما القول في الكهانة والتنجيم والنبوة؟ وما سبب قول كل صاحب علم أن علمه أشرف علم في الدنيا؟ ولماذا تنقسم الأخبار بين ما هو صدق محض وبين ما هو صدق ممزوج؟ ولماذا كانت الألفاظ كلما اختلفت أحلى في السمع؟ وكانت المعاني كلما اتفقت أحلى في النفس؟وهل معرفة الله ضرورة أم استدلال؟ وكيف يفعل الله تعالى ما يفعل؟ هل يفعل ضرورة أم اختياراً؟ وإذا كان الباري تعالى لا يفعل ضرورة ولا اختياراً، فعلى أي نحو يكون فعله؟