القصة في العراق لها شأنها الكبير في ثقافتنا العربية الحديثة وفي حركة الكفاح، فقد واكبت الحركة الوطنية طوال عهودها، وارتبط أكثر كتابها بالحياة العملية لهذه الحركة، فإذا هم يضعون حياة المجتمع والشعب نصب أعينهم كلما أرادوا الكتابة، فجاءت أكثر أقاصيصهم تدور حول قضايا هذا الشعب تعالج مشكلاته، كان الطابع الحماسي والخطابي يسيكر على الق...
قراءة الكل
القصة في العراق لها شأنها الكبير في ثقافتنا العربية الحديثة وفي حركة الكفاح، فقد واكبت الحركة الوطنية طوال عهودها، وارتبط أكثر كتابها بالحياة العملية لهذه الحركة، فإذا هم يضعون حياة المجتمع والشعب نصب أعينهم كلما أرادوا الكتابة، فجاءت أكثر أقاصيصهم تدور حول قضايا هذا الشعب تعالج مشكلاته، كان الطابع الحماسي والخطابي يسيكر على القصة العراقية في أول عهدها.ويعد محمود أحمد السيد من الرواد الأوائل -بل هو الرائد الأول- في بناء التراث القصصي الحديث في العراق، وجاء جعفر الخليلي بأقاصيصه الشعبية يمثل طابع الحياة العراقية في منطقة الفرات الأوسط، ودعمت جريدته "الهاتف" أثناء صدورها في النجف مكانة القصة العراقية الحديثة، وكان من قصاصي تلك الفترة عبد الوهاب الأمين، ولكنه إنقطع عن كتابة القصة إلى ترجمتها، ثم انقطع عن القصة تماماً، ومن القصاصين أيضاً د.صلاح الدين الناهي ولطفي بكر صدقي وسليم بطي.وكان ذو النون أيوب يمثل مرحلة انتقال من هذا الطابع الخطابي للقصة إلى الطابع الفني الحديث، الأكثر استيعاباً لحركة الحياة، وبالتالي الأقوى تعبيراً عنها. وقد اتسع نطاق القصة الفنية القصيرة بعد الحرب العالمية الثانية، نلمس ذلك إضافة إلى ذنون أيوب في كتابات الرواد عبد المجيد لطفي ويوسف متي وعبد الحق فاضل وشالوم درويش وأنور شاؤول وصفاء خلوصي.ومع تطور الحياة، وتطور المفاهيم، وصعود الحركة الوطنية، وذيوع الوعي الوطني والفني، أخذت القصة العراقية تتبلور فنياً وينضج محتواها، وكان عبد الملك نور، وقد اصدر "نشيد الأرض" وشاكر خصباك، وقد اصدر "عهد جديد"، وغالب طعمة فرمان، وقد أصدر "حصيد الرحى" وعبد الرزاق الشيخ علي، ثم كان فؤاد التكرلي، وغانم الدباغ ومهدي عيسى الصقر ومحمد روزنامجي ونزار سليم وعبد الله نيازي وسافرة جميل حافظ، و غيرهم أخذوا يكتبون القصة الحديثة بوعي فني حديث يدعمه عند بعضهم وعى اجتماعي جديد، إذ نجد في أقاصيصهم عنصر التركيز وعنصر الإيجاز بالإضافة إلى الالتزام البعض بمبدأ الوحدات الثلاث -الحدث والزمان والمكان- واهتمام البعض بلحظة التنوير.ويعد العقد الأربعيني هو البداية الحقيقية لعبد الملك نوري حيث بدأ بنشر قصصه في الصحف والمجلات آنذاك، وهي في نفس الوقت تعد مرحلة التأسيس بالنسبة إليه، ذلك إنه أخذ يتلمس الملمح الفني ويوظف بعض التقنيات القصصية التي كان يعثر عليها في قراءاته، وفي كما يتعلق بموضوعات، فقد أخذ ينهل من الواقع حيث كان يعج بالاف الحكايات والأحداث.كان القاص آنذاك ينقل مشاهداته وتجاربه إلى الورق بعد أن يعضها في إطار سردي متوفراً على تقنيات فنية وأساليب قصصية سادت تلك المرحلة. وتأتي المكانة البارزة للقاص الرائد عبد الملك نوري في الأدب العراقي الحديث بوصفه أبرز القصاصين العراقيين والعرب، الذين انتبهوا مبكراً إلى أهمية نقل القصة القصيرة من حالتها التقليدية التي تصور الشخوص من الخارج، إلى جدية العمل الفني داخل القصة القصيرة واكتشاف دخيلة النفس الإنسانية وإظهار مشاعرها الدفينة مع الحرص على أداء فني عال، وبذلك نقل كتابة القصة من حالة التصوير الخارجي وتدخلات (القاص) إلى حالة القصة الفنية القصيرة التي نضجت عراقياً على يديه ومن جايله من الرواد.واكتملت اشتراطاتها الفنية والجمالية، ولم يكن ذلك اعتباطاً ولا محض صدفة وإنما الأمر في رمته يتعلق بشخصية هذا القاص وبما امتلك من موهبة فذة فضلاً عن ثقافته العميقة وقراءاته المتنوعة التي أسهمت وبشكل فاعل في صقل تلك الموهبة. أضف إلى ذلك تجربته الواسعة على صعيد السياسة والحياة فعبد الملك شخصية سياسية واجتماعية و دبلوماسية شغلت مكانها بقوة وتأثير، ومقدرته على توظيفها من أجل ذلك الفن، كل هذه العوامل الذاتية منها والموضوعية خلقت منه قاصاً مبدعاً قادراً على تصوير مختلف مناحي الحياة وبأسلوب أدبي راق جعله في مصاف كتاب هذا الفن سواء كان ذلك ضمن أبناء جيله أم الأجيال اللاحقة، فقد اعترفوا له بالريادة والمكنة وما زالت أعماله القصصية وإلى الآن موضع دراسة وقراءة وتذوق يقوم بها المعنيون بهذا الفن الأدبي.لقد إطلع القاص الراحل على تجارب الشعوب المتقدمة في هذا المضمار ونهل من آدابها وإبداعاتها واستطاع بما أوتي من موهبة وذكاء على تمثل تلك التجارب والاستفادة منها ولم تقتصر قراءته على فن القصة، وإنما أمعن النظر في العلوم الأخرى من نفسية واجتماعية وفلسفية وحاول الاستفادة من تلك العلوم وما تمثله ذاكرته من قيمتها ومنطقها ومفاهيمها لهذا وذاك، لا تعجب إذا ما عرفنا بأنه أول من أدخل أسلوب تيار الوعي في القصة العراقية والعربية القصيرة، فضلاً عن توظيف للمدارس النفسية في كتاباته ولا سيما مدرسة التحليل النفسي ورائدها سيجموند فرويد، إن قراءته في علوم الغرب وإطلاعه على آدابهم لم يحولا دون تمنعنه في الواقع العراقي واستقراء صوره ومظاهره، بل أنه كان لصيق ذلك الواقع الذي خاض في آلامه وعذاباته وتنفس هواء شرائحه المسحوقة، لذا فقد عرف كثب وطأة البوس وثالوثة البغيض الذي كان يفتك بالمجتمع العراقي آنذاك. الجهل والفقر والمرض. إن معظم الشخصيات التي حاول تصويرها في قصصه مستنبطة من ذلك الواقع، وقد نجح أيما نجاح في تمثل ظروفها فنياً وقصصاً، بحيث أصبحت تلك الكتابات مدرسة تعلم فيها أبناء جيله ناهيك عمن لحقهم من أجيال تالية.وبالنظر لمكانة هذا القاص فقد أخذ "هاتف الثلج" على عاتقه جمع نتاج عبد الملك نوري، ولم شمله ضمن هذا الإصدار، فإنه يمثل أولاً تراث هذا القاص وثانياً فإن الدارس لأدبه يحتاج إلى متابعة كتاباته الأولى، وذلك لمتابعة تطوره الفني وملاحقة نضجه الفكري، فإذا كانت تلك القصص فقيرة من الناحية الفنية ويهيمن عليها أسلوب المقالة الاجتماعية فإنها من ناحية أخرى تعد المثابة التي إنطلق منها القاص في ترسيخ فنه وتعزيز تقاليده الفنية.لهذا السبب وذام راح يبحث في الصحف والمجلات التي كانت تصدر في مرحلة الأربعينات وفي بداياتها على وجه التحديد لإنتشال تلك الأقاصيص من وهدة النسيان والضياع ووضعها في المكان المناسب لها، وقد عثر على ستة عشر قصة لم يشأ القاص أن يعضها ضمن مجاميعه، بل أن بعضها لم ينشر وقد قام بنشرها في الصحف والمجلات وبعضها الآخر ينشر لأول مرة في هذا الكتاب، لذا فقد ضم إليها للسبب المذكور آنفاً، فضلاً عن فصلين من رواية لم تكتمل تشكل جميعاً بدايته بقصته المهمة (الرجل الصغير) وقد وافق القاص الراحل على ذلك عند مناقشته له حولها.لقد كتب القاص الرائد عبد الملك نوري آخر عمل له قبل ربع قرن تماماً، ثم انقطع عن الكتابة وآثر العزلة ولم يعد يذكر اسمه إلا نادراً، وفي حمى التجريب والمواصلة للقصة العراقية والتي سادت في العقدين السبعيني والثمانيني، أهمل ذكره إلا في تلك الكتابات والدراسات التي كانت تؤرخ للقصة العراقية أو ترصد التطور الأسلوبي والثيني لها، ضمن المنهج التاريخي أو الانطباعي.وبهذا يكون هاتف الثلج عثر عليه من التراث القصصي لهذا الرائد، إضافة إلى مجاميعه الثلاث "رسل الإنسانية" و"نشيد الأرض" و"ذيول الخريف".