يتلخص مضمون هذا الكتاب في التأكيد على الأدوار والتأثيرات الراسخة التي تركتها قوارب الدهو (الشراعية) بين عموم ضفاف المحيط الهندي. ويشدد الكتاب على أن تلك التأثيرات لم تقتصر على الجوانب التجارية والاقتصادية، وإنما تجاوزتها إلى الآثار الاجتماعية والثقافية التي شكلت الوجه الحالي للمنطقة. فقد نسج ملاحو الدهو وركابه على مر القرون وشائ...
قراءة الكل
يتلخص مضمون هذا الكتاب في التأكيد على الأدوار والتأثيرات الراسخة التي تركتها قوارب الدهو (الشراعية) بين عموم ضفاف المحيط الهندي. ويشدد الكتاب على أن تلك التأثيرات لم تقتصر على الجوانب التجارية والاقتصادية، وإنما تجاوزتها إلى الآثار الاجتماعية والثقافية التي شكلت الوجه الحالي للمنطقة. فقد نسج ملاحو الدهو وركابه على مر القرون وشائج اجتماعية وعرقية وثقافية بين أماكن انطلاقهم وثقافاتهم الأصلية من جهة، والأماكن التي كانوا يرسون عليها ويقيمون فيها انتظاراً لمواسم الرياح التي تُقلهم في ذهابهم وفي قفولهم من جهة ثانية. لقد عمل هذا الحراك الدؤوب بين ضفاف وموانئ المدن المترامية على المحيط الهندي على تشكيل محددات وملامح الثقافة العالمية لعالم هذا المحيط. ولئن كان للعرب نصيب وافر من الجهد المؤسس لهذه الثقافة، فإن الأمم الأخرى المتشاطئة على ضفاف هذا المحيط أسهمت هي الأخرى في رسم ملامح تلك الثقافة.لم يكن الدهو فقط ذلك القارب الشراعي الخشبي ذا الشراع المثلث، الذي يحمل على متنه طاقماً منوَّعاً من البحارة والعبيد والمسافرين من وإلى شتى الأصقاع؛ والبضائع المتنوعة من التمور العربية، والأسماك المجففة، والأخشاب الهندية والأفريقية، والحبوب الغذائية، والبضائع القطنية الهندية، والتوابل الإندونيسية، والخزف الصيني، والعاج الأفريقي؛ لقد كان أيضاً وبشكل أكبر وسيلة حية للتفاعل الاجتماعي بين الشعوب المختلفة التي كانت تتبادل تلك البضائع. كما أن تلك البضائع التي كان يتم تبادلها لم تكن سلعاً جامدة، إنما هي حاجات ضرورية ذات أبعاد ودلالات اجتماعية نقلتها معها من ثقافاتها الأصلية إلى الثقافات الفرعية الجديدة.لقد استطاعت شبكة العلاقات التي نسجتها ثقافة الدهو، الحفاظ على جذور راسخة بين جنبات المحيط؛ وهي جذور لم تستطع خمسة قرون من الوجود الأوربي إزالتها. وعلى الرغم من قوة ذلك الوجود منذ القرن السادس عشر الميلادي، فإن الموانئ في غرب المحيط الهندي ظلت تعج بمراكب الدهو حتى خمسينيات القرن العشرين، حينما شكل اكتشاف النفط في الخليج العربي نقطة تحول بارزة في طبيعة الاقتصاد القديم، وما اتصل به من تفاعلات ثقافية واجتماعية واقتصادية.كان المحيط الهندي منطقة تنوع ثقافي تحيط بأربع حضارات مختلفة: عربية-إيرانية، وهندية، وصينية، وإندونيسية، وكانت جميعها إمبراطوريات على اليابسة باستثناء الأخيرة منها. وعلى الطرق البرية والبحرية الرابطة بين هذه الحضارات تدفقت البضائع، مثلما تدفقت الأفكار التي عززت الوحدة بين هذه الحضارات المتشاطئة على المحيط.وتجدر الإشارة كذلك إلى أن الإسلام لعب الدور الأكبر في شتى التفاعلات التي تمت عبر المحيط الهندي، الذي كان يوصف أحياناً في بعض الكتابات بأنه "بحيرة إسلامية"، ليس لأن جميع الأمم المشاطئة له كانت تدين بالإسلام، إنما لأن ثقافته مثلت قاسماً مشتركاً لمعظم سكان المنطقة. فابن بطوطة، مثلاً، القادم من طنجة في المغرب الأقصى، استطاع الإبحار والتنقل والتفاعل عبر المدن الدول الواقعة على المحيط الهندي دون أن يشعر أنه قد غادر عالمه المألوف.