يكاد الصيد بالطيور الجوارح كالبازي والصقر والشاهين وغيرها أن يكون من أكثر الظواهر الحضارية تغلغلاً في حياتنا العربية على مر الزمن: سواء في ذلك الشعر والرسم والأمثال والقصص الشعبي. ولشدة تعلق الناس على مختلف المستويات بهذا النوع من الصيد تطور من "هواية" ترضي طلاب الرياضة والمتعة إلى علم ذي قواعد وأصول تتناول كيفية تدريب الطيور في...
قراءة الكل
يكاد الصيد بالطيور الجوارح كالبازي والصقر والشاهين وغيرها أن يكون من أكثر الظواهر الحضارية تغلغلاً في حياتنا العربية على مر الزمن: سواء في ذلك الشعر والرسم والأمثال والقصص الشعبي. ولشدة تعلق الناس على مختلف المستويات بهذا النوع من الصيد تطور من "هواية" ترضي طلاب الرياضة والمتعة إلى علم ذي قواعد وأصول تتناول كيفية تدريب الطيور في الإرسال والدعاء، وكيفية تغذيتها ومراعاتها في فترة القرنصة، وعلاجها إذا ألم بها مرض في أي جزء من أجزاء الجسم، وغدا لهذا العلم الذي يسمى "البيزرة" مصطلحاته الخاصة به، وخبراؤه وعلماؤه الذين يعرفون كل ما يهمهم في هذا الميدان على المستويين النظري والعلمي.ولفظة "بيزرة" مأخوذة من لفظ "البازيار" وهو الذي يعني بالبازي، لأنه أفره الطيور الجوارح، ثم توسع مدلولها لتعم الصيد بسائر الطيور، وبالكلاب أيضاً وبالفهود، إلا أن الصائدين بالكلاب والفهود يعرفون باسم "الكلابزة" و"الفهادين" أيضاً. وكتاب "الكافي في البيزرة" صورة محكمة لما بلغه هذا العلم في تطوره، وهو يجمع تجارب العرب والفرس والروم.وقد دونه المؤلف كما يقول بدافع علمي خاص هذا إلى جانب حبه للبيزرة وللجوارح وبدافع من هذه المحبة أخذ المؤلف نفسه بدراسة كل ما توصلت إليه يده من كتب في هذا الفن، وأضاف إلى ذلك خبرته ودربته على مر الزمن، عن طريق المشاهدة والسماع، فكتابه حصيلة ثقافتين: نظرية وعملية، وقد سجل كثيراً من تجاربه في هذا الحقل، في تضاعيف كتابه، فدل بذلك على مدى ممارسته، ولكنه قد ينتقل عن الأقدمين نصائح ووصايا لم يجربها بنفسه.وتتجلى ثقافة المؤلف العملية في مواطن كثيرة من كتابه، فهو يخبرنا مثلاً عن أفضل لون في الجوارح حسب خبرته الطويلة فيقول: "وعندي أن الأصفر من البزاة ومن الشواهين ومن الصقور ومن البواشيق ومن اليوايئ أصيد الألوان كلها بالتجربة" وهو حين يتحدث عن تخيط عيني الجارح يشرح كيفية ذلك ثم يحذر من أن الخطأ قد يذهب يعيني الجارح ويضيف "فقد رأيت أعين جوارح كثيرة هلكت بذلك السبب.أما ثقافته النظرية فقد اعتمد فيها على مصدرين: شهادات سماعية وأخرى منقولة عن مؤلفات سابقة في البيزرة، فقد روى سماعاً عن عدد من معاصريه من المشتغلين بهذا الفن أمثال غنيم العمادي ويوسف البازيار، وله من البازيار الفرنجي موقفان، فهو يقول مرة: "سمعت البازيار الفرنجي يقول" ويقول في مواطن كثيرة أخرى: "وقال البازيار الفرنجي" وهذا يعني في نظرنا أنه في حال السماع كان ينقل رأي بازيار بعينه، وفي حال "قال البازيار..." كان ينقل عن كتاب تتمثل فيه خلاصة تجربة الفرنجة لمؤلف معين أو لغير مؤلف واحد، كما سنوضحه فيما يلي. ولما كان كتاب الكافي متأخر نسبياً في الزمن فهو يعتمد على تراث واسع في البيزرة، ويردد حتى الجوانب الأسطورية من ذلك التراث.أما المصادر التي يعتمدها صاحب الكافي فهي تصدر دائماً باسم مؤلف الكتاب، دون تعيين لاسم الكتاب نفسه وإليك أسماء المؤلفين الذين ينقل عنهم: أدهم بن محرز الباهلي، الغطريف بن قدامه الغساني، مهدي بن أصرم، صاحب كتاب الصيد، محمد بن عمر البازيار المعروف بعرجة، عبد الله بن يوسف البازيار الأصفهاني، البازيار الفرنجي، يعقوب بن إسحاق الكندي، وغيرهم...