تخوض لغتنا العربية الفصحى في زماننا اليوم صراعين اثنين: أما أحدهما فهو صراع طبيعي استدعت حتميته ظروف طبيعية في حياة لغات الشعوب، وهو صراع قديم، ضرب جذوره في بطن الماضي السحيق، ودارت حلباته في مراحل زمنية مختلفة، منذ أن اقتسمت البشرية بقاع الأرض وأصبحت فوتها شعوباً وقبائل متباينة الأجناس والألوان والألسنة.وأما الصراع الآخر، فهو ص...
قراءة الكل
تخوض لغتنا العربية الفصحى في زماننا اليوم صراعين اثنين: أما أحدهما فهو صراع طبيعي استدعت حتميته ظروف طبيعية في حياة لغات الشعوب، وهو صراع قديم، ضرب جذوره في بطن الماضي السحيق، ودارت حلباته في مراحل زمنية مختلفة، منذ أن اقتسمت البشرية بقاع الأرض وأصبحت فوتها شعوباً وقبائل متباينة الأجناس والألوان والألسنة.وأما الصراع الآخر، فهو صراع مصطنع مدبر، أرصدت له جهود، وسخرت في سبيله طاقات، كانت جميعها ثمرة حقد دفين، تأجج لهيبه في صدر التعصب الاستعماري. واستحال هذا الصراع المدبر حرباً ضروساً، استعر أوارها في بداية القرن العشرين على يد المستشرقين الحاقدين الذين خاضوها ضد الفصحى عبر ثلاثة محاولا هي: قواعد اللغة العربية، الخط العربي، اللغة العامية.ولكن لغتنا العربية المجيدة كانت أقوى من أن تنال إباءها مقاصد الشر، وأكبر من أن تتخاذل أمام مكائد الغدر، فاستطاعت بفضل ما تمتعت به من رصيد روحي متمثل بالقرآن الكريم، وما تمتعت به من عوامل التطور والثبات في ألفاظها وتراكيبها وأساليبها، إلى جانب رصيدها الكبير من المتكلمين بها والمؤثرين إياها حتى على لغاتهم الإقليمية، استطاعت بفضل ذلك كله أن تقف في وجه جميع التحديات، وأن تتصدى لكل الهجمات، وأن تقاتل على مختلف الجبهات، وفي شتى المحاور، وأن تحقق النصر تلو التصر، وتمني خصومها بالهزائم المتلاحقة، والخسائر الفادحة، وتثبت، عبر هذا الصراع وكل صراع تخوضه في حياتها، جدارتها بتوجيه اللسان الإنساني، وسيطرتها على أساليب المنطق البشري، وتأثيرها البليغ في نفوس المتكلمين، وأنها المثل الكامل للغة الإنسانية الكريمة التي تملك القدرة الكاملة على مسايرة التطور البشري والإنسجام مع معطيات ذلك التطور، إلى جانب امتيازها بعمق الجذور، وثبات الأصول.وما يسعى إليه هذا الكتاب هو الضوء على هذا اللون من الصراع اللغوي المدبر، والكشف عن أبعاده وأهدافه، وتوضيح موقف الفصحى منه، وبيان مدى صمودها وثباتها في حومته، وانتصارها المشرف عبر جميع محاوره.هذا وقسمت مواضيع هذا الكتاب إلى أربعة فصول، عالج الفصول الثلاثة الأولى منه مشكلة المحاور الثلاثة، فأفرد فصلاً لكل محور منها، وجعل الفصل الأخير دراسة نقدية لرسالة "الفصحى والعامية" تأليف الأستاذ أحمد عبد الغفور عطار.