يتابع الباحث في هذا الجزء دراسته التي تناولت الأدباء والمفكرين وعلاقتهم بالسلطة في عهد بني بويه. وأما لماذا اختياره للدولة البويهية بالذات طرفاً وإطاراً تاريخياً، فيرجع ذاك إلى اقتناعه بأن هذه الدولة مثلت تحولاً نوعياً هاماً في التاريخ العربي الإسلامي: على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، وهو تحول كانت له آثاره ال...
قراءة الكل
يتابع الباحث في هذا الجزء دراسته التي تناولت الأدباء والمفكرين وعلاقتهم بالسلطة في عهد بني بويه. وأما لماذا اختياره للدولة البويهية بالذات طرفاً وإطاراً تاريخياً، فيرجع ذاك إلى اقتناعه بأن هذه الدولة مثلت تحولاً نوعياً هاماً في التاريخ العربي الإسلامي: على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، وهو تحول كانت له آثاره العميقة في الحضارة العربية الإسلامية طيلة العهود اللاحقة.وهذه لمحة خاطفة عن المسائل التي تناولها الباحث في الجزء الأول من هذا الكتاب "المثقفون والسلطة في الحضارة العربية (الدولة البويهية نموذجاً) - الجزء الأول". في الباب الأول تمت دارسة طبيعة هذه الدولة: دراسة مدققة ضافية وتمّ في الباب الثاني التعريف بـ"أهل الأدب" اصطلاحاً وتركيبة اجتماعية. وأفرد الباب الثالث لكتاب الدواوين من الأدباء أو "أصحاب الدراريع" وذلك لما كان لهم من مكانة متميزة في الدولة البويهية. أما عن سائر فئات "أهل الأدب" اصطلاحاً وتركيبة اجتماعية. وأفرد الباب الثالث لكتاب الدواوين من الأدباء أو "أصحاب الدراريع" وذلك لما كان لهم من مكانة متميزة في الدولة البويهية. أما عن سائر فئات "أهل الأدب" من غير "أصحاب الدراريع" فقد تم إفراد الباب الرابع الذي مثل الجزء الثاني من هذا الكتاب حيث توسع الباحث في توضيح هؤلاء الأدباء والمفكرين المعاشية وطرق كسبهم، وعلاقتهم بالأدب، ومكانتهم في مجتمعهم، وطبيعة العلاقة التي نشأت بينهم وبين رموز السلطة البويهية بالإضافة إلى بيان المواقف التي اتخذها بعضهم في مجمل الأوضاع التي كانت سائدة في ظل بني بويه. وقد تمت معالجة ذلك على ضوء نماذج لكل فئة من هذه الفئات. ويلفت الباحث النظر بأن الصورة التي كرستها معظم الدراسات للدولة البويهية، هي في الجملة صورة سلبية، شديدة التعتيم في الغالب، فلم ير فيها البعض إلا امتداداً متدهوراً لعهد الفوضى العسكرية التي سيطرة على الدولة العباسية في مطلع القرن الرابع الهجري. ورأى فيها البعض الآخر تجسيداً لحقد شعوبي فارسي دفين ضد الدولة العربية.واعتبرها آخرون تسلطاً شيعياً على جمهور المسلمين من أهل السنة وإمامتهم الممثلة في الخلافة العباسية، واعتقدوا أن البويهيين هم مجرد عسكريين متعصبين لمذهبهم الشيعي، فحملوهم دون حجة، مسؤولية الفتن المذهبية المخزية التي عاشتها خاصة في النصف الأول من القرن الخامس للهجرة. وحتى الباحثون المستشرقون لم يتخلصوا كثيراً من هذه النظرة التي نُسِجَتْ خيوطها على نول الأحكام المسبقة.إلا أن استقراء الباحث الموضوعي لنصوص المدوّنة التي اعتمدها والتي سيطلع القارئ عليها في ثنايا هذه الدراسة، تلك النصوص مكنت الباحث من تجاوز العديد من هذه الأحكام المسبقة، وإثبات مجانبتها للواقع التاريخي، كما كشف الفحص للباحث مختلف العناصر والعوامل المسهمة في بنية الدولة البويهية، في حركية تقاطعها وتصادمها، وترافدها وتسايرها، عن بعض الحقائق الأساسية التي بإمكانها إنارة بعض زوايا العتمة والظل في العديد من جوانب الحضارة العربية الإسلامية في مرحلة كانت من أخطر مراحل تطورها التاريخي، وبالتالي الإعانة على فهم أدق وأوضح لسمة التناقض واللّبس التي تبدو ملازمة لهذه الدولة ولمختلف الظواهر السياسية والاجتماعية والثقافية المتولدة عنها.ومن زاوية أخرى يلفت الباحث النظر، ومن خلال هذه الدراسة، إلى أن البويهيين وبحكم انحدارهم من مناطق جبلية تقع على تخوم البلاد الإسلامية، كانوا يمثلون سلطة الهامش الجغرافي أي الآفاق والأطراف على حساب المركز. وهم بحكم انتمائهم إلى الدّيلم الذين يتموقعون على هامش التاريخ الفارسي، كانوا يمثلون سلطة الهامش بالمفهوم القومي كذلك، أما عقيدتهم الشيعية الزيدية التي كانت مطاردة ومقموعة منذ العهد الأموي، فكانت تضعهم في الهامش المذهبي الديني بالقياس مع المذهب السني الحاكم.ويرى الباحث بأن كل هذه السمات الهامشية قد وجدت تعبيرها الملائم في تعاظم مكانة الفئات المهمشة ودورها في هذه الدولة. وهي التي تفسر نشوء أشكال أدبية قيمة وثقافية معبرة عن هذه الفئات في حدود مجال الحكم البويهي دون سواه. ومن ما يسترعي الانتباه في هذه الدراسة في هذه الجزء، أن ردود الفعل التي توخاها "أهل الأدب" إزاء الدولة البويهية، وطبعت علاقتهم بالسلطة السياسية فيها وبرجالاتها، لم تكن ردوداً فردية عفوية، وإنما اتخذت في الغالب شكل الموقف الفئوي الجماعي الواعي.وقد ميز الباحث في ذلك أربعة مواقف مختلفة ومتأثرة إلى حدٍّ بعيد بطبيعة الدولة البويهية من ناحية، وبطبيعة التحولات العامة في ظلها من ناحية ثانية. وتتلخص هذه المواقف في ما سماه الباحث بـ: 1-موقف الرفض، 2-موقف التيار النفعي، 3-موقف تيار الكدية والسخف، 4-موقف التيار إصلاحي بين المفكرين من أهل الأدب وعلماء الدين.وأخيراً يمكن القول بأن الباحث قد استوفى البحث في أوضاع "أهل الأدب" في العهد البويهي بمختلف فئاتهم التي عبّرت عن نفسها من خلال تيارات متكاملة منظمة أو غير منظمة، كما حاول توضيح طبيعة العلاقة التي ربطت بينها وبين السلطة البويهية بحسب موقع كل فئة ومواقفها، وبحسب طبيعة هذه السلطة ومتطلبات الأوضاع التي واجهتها.