قصيدة محمد القيسي حالة خاصة في الشعر الفلسطيني وهي بامتدادها على ثلاثة عقود واشتمالها على تحولات الحالة الإبداعية المتأثرة بالشرط السياسي القاسي استطاعت أن تتلون بأطياف متعددة من تاريخ الشاعر ومن النفي إلى مأساة فقدان الوطن، إلى تحسس صورة اللاجئ وصولاً إلى الانعتاق من أسر الحنين إلى فضاء اللوعة الوجودية. عبر هذه الأقاليم نقلت وس...
قراءة الكل
قصيدة محمد القيسي حالة خاصة في الشعر الفلسطيني وهي بامتدادها على ثلاثة عقود واشتمالها على تحولات الحالة الإبداعية المتأثرة بالشرط السياسي القاسي استطاعت أن تتلون بأطياف متعددة من تاريخ الشاعر ومن النفي إلى مأساة فقدان الوطن، إلى تحسس صورة اللاجئ وصولاً إلى الانعتاق من أسر الحنين إلى فضاء اللوعة الوجودية. عبر هذه الأقاليم نقلت وسارت قصيدة محمد القيسي، لكنها ظلت محتفظة بميسم أصيل ومتميز طبع هذه القصيدة وحافظ على جاذبيتها وبصمتها، ومعنى هذا الميسم: الغنائية، كأنما الشاعر مغنّ جوال يعزف أوجاعه متحلياً بأقصى درجات العذوبة.أخيراً تكلل المشروع الشعري لمحمد القيسي بما يشبه الاكتمال بصدور أعماله الشعرية شبه الكاملة. إن النجاز الشعري الذي قدمه محمد القيسي للقصيدة العربية المعاصرة منذ ديوانه الأول "راية في الريح" يبقى علامة مميزة تستدعي الاقتراب من جمرها، وتحسس اللظى الذي صدرت عنه: "أحبائي، يمر الليل عن جفني ويسألني، متى تشفى من الشجن؟ أحبائي سؤال الليل يؤلمن لأني كل ما أدريه أني بقيت منفياً وأني لم أزل حياً تعذبني وتقلقني طيوف الأمس والذكرى تعذبني". ولعل هذه اللوعة والعذاب والحيرة التي تلقي بظلالها فوق روح الشاعر، وهذه الجدّة في القصيدة هما ما دفع الناقد المصري رجاء النقاش إلى اعتبار ذلك بمثابة شهادة ميلاد لشاعر كبير حقاً، النقاش أضاف "هزني استخدام الشاعر للأغاني الشعبية استخداماً جميلاً ورائعاً، إن اختياره لفقرات من الأغاني الشعبية، هو في حد ذاته موهبة ذات حساسية وذوق، ولا شك أن هذه الموهبة الفلسطينية تستطيع أن تقدم شيئاً للوجدان العربي".وقد وظف القيسي الموروث الشعبي الفلسطيني توظيفاً خلاقاً في شعره فاتكأ على الحكاية، ونهل من معين الأهزوجة، وحلّق بالمواويل فوق الذرى، وكانت قصيدته "الصمت والأسى" التي أطلق النقاش بشأنها حكمه السابق تجسيداً لعبور قصيدة القيسي مناطق الذاكرة الشفوية للوجدان الشعبي الفلسطيني: "يا دار، يا دار، لو عدنا كما كنّا، لأطليك يا دار، بعد الشيد بالحنّا".وإذا كان الأدبي السوري ياسين رفاعية وصف كلمات الشاعر محمد القيسي بأن لها "فعل الرصاص وحدّة المعركة" فإن الناقد المصري د.غالي شكري رأى أن القيسي يستمد "من أسلوب (فروسية الكلمة) وتجسدي المجردات وموسيقى الأبحر الراقصة والحكايات الناعمة ما هو أبعد غوراً من الأعماق العربية حيث يمزج الحس بالوجدان ليخرج منها بمركب جديد هو القلب الجريد في أهوائه المشروعة وكبريائه المخنوق، وهكذا تتوحد عنده الأحزان وتنسج الآلام نحيباً واحداً مشتركاً بين هوى الحياة وهوى الوطن، فتندغم، من ثم، القضية العامة في التجربة الشخصية، ويمسيان معاً تجربة المأساة على أرض الفداء".وبعد هذا يمكن القول بأن تجربة محمد القيسي الشعرية تجربة ذات مساحة واسعة، فهو الذي أفرد أيامه كلها للقصيدة ليضحي المكتوي بنارها، وليصبح معلماً ملهماً لكثير من الشعراء.من هنا كان هذا الكتاب الذي يوثق مثل هذه التجربة في كتاب، من خلال أقلام النقاد والكتاب، الذي استهواهم شعر محمد القيسي، وإنجازه الإبداعي الملفت، فالكتاب يشكل رحلة في مداخل ومخارج هذه التجربة التي تنوعت، يرى فيها تجليات الأسطورة، والفضة، والرياحين، والحنين، وعمق المنفى، وكأنه يعكس بذلك الملامح العربية عموماً، والفلسطينية على وجه الخصوص، عبر مراياه، في دعوة لرؤية الذات عن قرب وعناقها.وقد كان اختيار المقالات التي ضمّها هذا الكتاب متنوعاً ومحيطاً بأبوابه الثلاثة، بدءاً من الشهادات، حتى المقالات التطبيقية، مروراً بالدراسات التي تناولت جدلية الحياة والقصيدة، لتتضح نقدياً صورة وشعره وموقعه في الخارجة الشعرية في العالم العربي، مشكلاً بذلك بنية تأليفية، وسياقاً متناغماً. وتجدر الإشارة إلى أنه تمّ إلحاق الكتاب بملاحق تشتمل على أكثر من كشاف للمقالات والحوارات، لمن أراد التزود بشكل أوسع.