في شوارع المدينة المخادعة، توزعت أجزاء الصورة المركبة لرجل وامرأة اتفقا على أن يلتقيا بعد غياب. بدت المدينة البحرية في تلك الساعة كامرأة في منتصف العمر، ترتدي ما خف من الملابس البيتية المريحة، وتجلس أمام منزلها في انتظار نسمة هواء منعشة تطرد الحر والرطوبة العالقين بجلدها المترهل. كان الجو خانقاً بالفعل، وشعر كل من الرجل والمرأة ...
قراءة الكل
في شوارع المدينة المخادعة، توزعت أجزاء الصورة المركبة لرجل وامرأة اتفقا على أن يلتقيا بعد غياب. بدت المدينة البحرية في تلك الساعة كامرأة في منتصف العمر، ترتدي ما خف من الملابس البيتية المريحة، وتجلس أمام منزلها في انتظار نسمة هواء منعشة تطرد الحر والرطوبة العالقين بجلدها المترهل. كان الجو خانقاً بالفعل، وشعر كل من الرجل والمرأة بأن ثمة نقصاً مخيفاً في الهواء، ولذلك وجدا صعوبة في اختيار المكان الذي سيجلسان فيه: ففي الداخل المبرد بمكيفات الهواء تراصت الطاولات وتلاحم الناس على نحو يثير الأعصاب، وفي الخارج حيث يستطيع النظر أن يتسلل إلى الواجهة البحرية بين تراص الأبنية هواء دبق لا يسمح بالتنفس. هكذا كانت علاقتهما التي لا مكان لها!في المدينة البحرية المقيمة في الرطوبة والالتباس التقيا ليكتشفا أن ما بينهما يشبه ما يريانه. كانا ينظران إلى ما حولهما ويريان التنوع في كل شيء، التنوع الذي يميل إلى التناقض والتنافر: تناولا الطعام الأجنبي في المطعم الإيطالي وتنشقا رائحة الشواء من مطعم لبناني قريب، محلات تجارية ذات بضائع مختلفة المصادر، محلات تراثية تعمل فيها بائعات شبه عاريات، مساجد ضخمة وكنائس فخمة تتجاوز ولا تتحاور، واجهات جميلة يقبع خلفها الفراغ أو الدمار في انتظار ثري يحولها إلى نسخة مشوهة عن أحلام طفولته، سياح من مختلف اللهجات والانتماءات والمستويات، روائح الأجساد المتصببة عرقاً تختلط بنكهات الطعام الغريبة، كل ذلك في مدينة هويتها اللاوضوح. هكذا بدت لهما تلك العلاقة التي لا هوية لها!في المدينة البحرية المخادعة لا يمكن أن يكون للعلاقات أسماء واضحة وهويات معروفة. فحين نرى صبيين في بداية المراهقة يمشيان متمهلين ويمسك الواحد منهما بيد الآخر في حنان واستسلام نستطيع أن نحرز فوراً أنهما لن يجدا لهما مكاناً إلا في هذه المدينة التي أدارت ظهرها للبحر، وأغلقت الأبواب على نفسها كي لا ترى الأفق، وحولت شوارعها متاهات وطردت أبناءها وفتحت ذراعيها للعابرين، ونفهم لماذا يقصدها هؤلاء الذين يرفضون كل انتماء أو ارتباط أو تعلق أو التزام، بل يعبر فيها العابرون، فلا هي تحفظ وجوههم أو تدعي الإخلاص لهم ولا هم يدينون لها بغير المال الذي يدفعونه من أجل لذة التواجد فيها ومعها، كأي لقاء بين رجل وبغي. في ذلك النهار القائظ لم يفكر الرجل والمرأة في كل ذلك، فهما لم يكونا يريدان إلا نسمة هواء منعشة تطرد الحر والرطوبة العالقين بجلد علاقتهما المترهل قبل الأوان.