رباعيات عربية توازي في شاعريتها شاعرية الخيّام.حقّقها وقدّم لها الدكتور كمال أبو ديبلشعر الأصفهاني نكهة تميّز شعر الحداثة العربية، بشكل خاص، والحداثة، بشكل عام: هي نكهة الفرادة النابعة من توحد فاعليتين أساسيتين من الشعر: الفكر والانفعال في أوجه، ينسرب شعر الرباعيات بسلاسة تأميلية غنية تملك توازناً عميقاً بين لغة الاكتناه الفكري ...
قراءة الكل
رباعيات عربية توازي في شاعريتها شاعرية الخيّام.حقّقها وقدّم لها الدكتور كمال أبو ديبلشعر الأصفهاني نكهة تميّز شعر الحداثة العربية، بشكل خاص، والحداثة، بشكل عام: هي نكهة الفرادة النابعة من توحد فاعليتين أساسيتين من الشعر: الفكر والانفعال في أوجه، ينسرب شعر الرباعيات بسلاسة تأميلية غنية تملك توازناً عميقاً بين لغة الاكتناه الفكري ولغة النبض الانفعالي: وكلا اللغتين تبدو، أحياناً، خاضعة لملكة فنية تسيطر على تدفق الانفعال وتمنع، في الوقت نفسه، ذهنية الفكر من الطغيان وتحويل الرباعية إلى معادلة لغوية صرف، أو معادلة ذهنية الفكر من الطغيان وتحويل الرباعية إلى معادلة لغوية صرف، أو معادلة ذهنية صرف تقرر المبدأ الصوفي، مثلاً، دون أن تحوله إلى رؤيا صافية كما يحدث في كثير من الشعر الصوفي العربي.وبين أبدع أمثلة هذا التوازن الرباعية التالية: "أنفاسك عسيوية يا ريح ما شئت بها لمهجتي ترويح-رشحت لأسرارها روحي للروح كذا فليكن الترشيح. وتتناوس لغة الرباعيات في شبكة من الصور التي تمثل وصول الشعر "الميتافيزيقي" العربي إلى ذروته وتحيله إلى تجسد مبكر للشعر الميتافيزيقي الإنكليزى في القرن السابع عشر في ستراه الأغنى. هكذا تصبح صورة مضيئة للأصفهاني وجهاً آخر غنياً لصورة مضيئة لـ"جون دون" أو لـ"ورد هربرت" مثلاً. وفي أجمل أمثلته يتوحد في شعر الأصفهاني في البعد الميتافيزيقي النابع من براعة التقليل التخييلي أو المجاز الفكري (conceit) ببعد ميتافيزيقي حقيقي، بالمعنى الماورائي للميتافيزيقية، فيفيض بتداخل وتشابك ثريين بين عالم اللغة وعالم الهواجس الإنسانية بالموت، والترف، والعشق، والجنس، والحضور الصوفي، والنزوع نحو المطلق.وتكتمل، هكذا، للرباعية نية شبكية مليئة بحيوية داخلية تكتنه اللغة، العالم، الإنسان بما هي وجود قلق يبحث فيه الشيء عن الشيء والكلمة عن الكلمة، والإنسان عن الإنسان وعن الله، وبين أبدع أمثلة هذا الاكتمال الشعري، الرباعية رقم (110): "أسرت بي، والليل كظني داج تسمو بي نحو أرفع الأبراج-رؤياي ارت سماءها لي أرضها ما أحسن لو بصورتي معراجي". وفي هذه البنية الشبكية، يعاين الوجود بأبعاده كلها: الطبيعية، الثقافية، والإنسانية، ولإلهية، من حيث هو نسيج متلاحم لا يكتسب عنصر من عناصره معنى مستقلاً في عزلة من البنية الكلية، ويتحدد فيه كل شيء بشيء آخر: أما نقيضه أو شبيهه. ويصبح اكتناه فاعليتي التشابه والتضاد المنبع الثر للرؤية الشعرية كلها وللتجربة الإنسانية بأكملها.وبهذا يوصل هذا الشعر تيار الحداثة إلى ذروة من ذراه، مكملاً تبلوره الذي كان قد بدأ في شاعرية أبي تمام الرائدة والتي كانت افتضاضاً للغة، تزيفاً لنسيجها الداخلي، الذي كان تشكله قد اكتمل عبر التجربة الجاهلية فالإسلامية بالأموية، وتأسيساً لرؤية شعرية جديدة ترفض معاينة العالم في صورته المتشكلة الواضحة وتغوص على أعماقه لتكتنه علاقات جديدة بين مكوناته، ثم تفجرها فتقلب بنية اللغة وتمنحها صورة طرية هشة تغيض بإيحاءات لم يعرفها العقل العربي من قبل، وبتشابكات عجز لزمن طويل حتى عن تمثلها، دع عنك تقبلها. وفي شاعرية الأصفهاني انتفاض مماثل للغة، وتمزيق لنسيجها الداخلي، لكن الانتفاض هنا لا يرتكز إلى نسف للتراث المتشغل، بل إلى تمثل مدهش له وتعميق لتشابكاته وانطلاق منه إلى خلق علاقات جديدة لا يمكن أن تتبلور في معزل عن هذا التراث.