كان آل سعيد يبني في الخمسينات لوحته وفق إيقاع شكلي مستلهم من الإنفعال من الحكاية الشعبية بصبر لافت. من غير أي إختزال أو توتر خارجيين. كأي ريفي كان لديه متسع من الوقت لكي يفيض في إسترساله وتماهيه مع مزاجه. ذلك الإسترسال الذي كان يولي الزخارف عناية خاصة، من غير أن يقترب من صدور التكرار المبتذل. كانت تلك الرسوم بمثابة عملية تنقيب ف...
قراءة الكل
كان آل سعيد يبني في الخمسينات لوحته وفق إيقاع شكلي مستلهم من الإنفعال من الحكاية الشعبية بصبر لافت. من غير أي إختزال أو توتر خارجيين. كأي ريفي كان لديه متسع من الوقت لكي يفيض في إسترساله وتماهيه مع مزاجه. ذلك الإسترسال الذي كان يولي الزخارف عناية خاصة، من غير أن يقترب من صدور التكرار المبتذل. كانت تلك الرسوم بمثابة عملية تنقيب في الحكاية بحثاً عن ضالة قلقة يضفي عليها البعد الديني شيئاً من القداسة المبهمة. وهي رسوم تبدو الآن كما لو أنها من كتاب أدعية شعبي الإقامة في بغداد لم تفسد رسوم آل سعيد الريفية، بل وضعتها في حيزها الحقيقي: نبوءة المستقبل سيكون من الصعب على تلك المدينة الهشة بسبب ترفها وعودتها إلى الوعي أن تتفادى الوقوع في فوضاه المحيرة. (زين العابدين) لوحته الشهيرة لم تكن مجرد واحدة من أيقونات تلك المرحلة، بل كانت أيضاً بمثابة الرجاء المعرفي الذي يتماهى مع القوة العاصفة التي تختبئ تحت قشرة في الضعف المسكون بالهيبة. تلك الشخصية الرمزية القادمة من الموروث العيني الشعبي كانت تكشف عن نوع من التفكير السياسي في الجهة المقابلة للجهة التي تقف عليها التيارات اليسارية التي كانت سائدة يومها في الثقافة العراقي وهي التيارات التي كانت تدعو إلى تحول سياسي مفارق للماضي. كان الفتى شاكر نفسه نوعاً من زين العابدين وكما يبدو فإن الرسام كان يتماهي في مختلف مراحل تجربته الفنية مع الرموز الدينية أو الشعبية التي كان يستخرجها من الغيب. كان الرسم يضعه في الجهة التي تكون العودة منها ممكنة في حالة واحدة: التجلي. إستدعاء مالايرى في لحظة إشتباك تصويري مع ما يرى. في حقيقة موقفه الجمالي كان آل سعيد يقيم في مكان أمين، فكان لا يجمعه بأحد. حين نشر بيانه التأملي عام 1966 إتسعت الهوة التي تفصله عن بقية مكونات المشهد الفني في العراق من الفنانين والواهر والأفكار والتجارب الفنية السائدة على حد سواء. كان ذلك المشهد قد شكلته مجموعة من الوقائع التي حلت في الواجهة منتصف الستينات وبالضبط عام 1965: تأسيس جماعة المجددين، معرض الشهيد لكاظم حيدر، عودة إسماعيل فتاح الترك في روما بلوحاته التي يغلب عليها اللون الأبيض بحلوله التقنية التي تشف عن مفهوم جديد للسطح. كانت تلك الوقائع بمثابة الجدار العازل الذي إصطدمت به أساليب ومضامين الفكر الفني الخمسيني لتنكفئ على نفسها ولتكف عن التأثير إلا فيما ندر- تجربة جواد سليم ظلت تثير حماسة البعض) مكتفية بقيمتها التاريخية. تجربة آل سعيد الفنية وحدها ظلت بعيدة عن كل محاولة لإيقاف فاعليتها أو إستنزافها. لا لشيء إلا أنها كانت تقيم في مكان آخر، غير ذلك المكان المرئي الذي كانت فيه التجارب الفنية تتناسل وتتلاقح وتتكاثر ويؤثر بعضها في البعض الآخر. كان واضحاً أن آل سعيد القادم في الخمسينيات قد إستعان بمصادر مجهولة يسرت له إمكانية أن لا يستمر خمسينياً أو يمتزج بعصف الستينات. كان فنه قد فاجأ الجميع، من غير أن يقترب من حدود التداول النقدي (والجماهيري أيضاً) ليكون جزء من الظاهرة العامة. إنتهى آل سعيد في تجربته الفنية إلى حالة لا يمكن إغفالها في العداء القوي والمعلن للمعنى، وهي الحالة نفسها التي بدأ هيمت تجربته الفنية متأثراً بمعلمه. هل كان آل سعيد في مراحله الفنية الأولى يسعى إلى البحث عن معان لتكريسها جمالياً؟ ربما كان كذلك إلى أن إكتشف الجدران منتصف السبعينات، فصار العالم من حوله خاو من كل معنى. هناك المزيد عن التجربة الفنية لكل من الفنانين شاكر حسن آل سعيد وهيمت محمد عبي. يستعرضها الكتاب للإنتقال من ثم إلى عرض مجموعة من اللوحات لكليهما.