يبدو غسان تويني في اسراره، وكأنه انتهى من حيث ابتدأ عبر رحلة امتدت خمسين سنة؛ طالب الفلسفة في الجامعة الأميركية الذي تتلمذ على شارل مالك الذي نصح طلابه ان يقرأوا "دفاع ارسطو" مرة في السنة على الاقل، ثم طالب الفلسفة في هارفرد حيث كان ينوي ان يتابع دراساته العليا، قبل ان يضطر الى العودة الى بيروت ليصبح صحافيا بالصدفة كما يقول وليم...
قراءة الكل
يبدو غسان تويني في اسراره، وكأنه انتهى من حيث ابتدأ عبر رحلة امتدت خمسين سنة؛ طالب الفلسفة في الجامعة الأميركية الذي تتلمذ على شارل مالك الذي نصح طلابه ان يقرأوا "دفاع ارسطو" مرة في السنة على الاقل، ثم طالب الفلسفة في هارفرد حيث كان ينوي ان يتابع دراساته العليا، قبل ان يضطر الى العودة الى بيروت ليصبح صحافيا بالصدفة كما يقول وليمارس السياسة على سبيل الهواية. واذا كان "سر المهنة واسرار اخرى" الكتاب، هو نتيجة هذه الصدفة وتلك الهواية، فإن غسان تويني يعود في نهاية كتابه الى الحرفة التي افتقدها، فيعرض آراءه الفلسفية في التاريخ والدين والجمال والسياسة، في الحديث الأخير من الاحاديث العشرة التي يتكون منها الكتاب والتي جاءت على شكل محاورات هي من وحي محاورات الفلاسفة اليونان عند ارسطو وافلاطون وسواهما. وكان الشاب غسان تويني، في احد الاسرار التي يكشفها، قد بعث في آخر رسالة كتبها الى والده، يقول انه يريد ان ينصرف الى التدريس والتأليف الفلسفي في خضم انهماكه باطروحته عن نظرية ايمانويل كانط عن الحرية في السياسة والأخلاق والتاريخ، تلك الاطروحة التي لم يكملها ابدا واراد تعويضا عنها خمسين سنة من ممارسة الحرية في السياسة والصحافة والكتابة. وكأن كتابه الذي يمتد عبر مئات الصفحات من الوثائق والصور والشهادات والمقالات، فضلا عن الحوارات، هو خلاصة هذه الممارسة بل شهادة الشهادات عن الصحافة والسياسة والحرية. لذا فإن الكتابة عن هذا العمل/ السفر، لن تكون سهلة. واذا اردنا ان نلخص بهذه الكثافة، بكلمة او بعبارة، قلنا ان "سرّ المهنة" هو ملحمة الصحافة اللبنانية او قاموس الصحافة اللبنانية او أطول شهادة (عربية) واطول اعتراف (ارثوذكسي) كُتب باللغة العربيّة. وكذلك سيكون من الصعب ان نكتب تقديما لمثل هذا الكتاب بعد ما كتبه انسي الحاج: "لعل ابرز خلاصة لهذه الذكريات انها تحدد، بعد نصف قرن، ايمان غسان تويني بالصحافة، وايمانه بالديموقراطية والحرية ولبنان. لا تراجع ولا استسلام امام المحن والتحديات" و: "غسان تويني هو اليوم رمز من رموز الصمود اللبناني ضد الاضمحلال". بل ان غسان تويني ترك صعوبة جمّة في جعله هذا الكتاب، الذي هو عبارة عن حوارات تكاد لا تنتهي، ضد السيرة وضد التأريخ. لأن ما يأتي عليه ليس اخباره الخاصة وليس سيرته، ولأنه لا يريد ان يدّعي كتابة التاريخ وهو الذي كان في خضم الوقائع كل صباح ومساء يشارك في صنع احداث النهار، مازجا السياسة بالصحافة، بالديبلوماسية، بالحزبية التي اراد ان يُبعد تأثيرها عن كتابته. اراد بتواضع كما يقول: "ان يكون (كتابه) اداة مدرسية، متوجها من تاريخ قريب الى جيل من الصحافيين لم يعرف اطلاقا ماذا كان للصحافة خلال نصف القرن الذي عشت"(ص554). من المؤكد ان الكتاب سيكون مثل هذه الاداة، لكنه سيكون غير ذلك ايضا. القارئ ان يتعقّب في "سر المهنة" اسراراً كثيرة هي بعض الاسرار الاخرى، التي يكشفها كاتبها للمرة الأولى، كما في حادثة اختطاف ميشال ابو جوده، او في حديث الرئيس انور السادات المسجل والمنقول على عجل الى الرئيس سليمان فرنجيّة قبل اندلاع الحرب في لبنان، او في الاوراق التي يبرزها الملك حسين بعد توقيع الفلسطينيين اتفاق اوسلو، او في كشف اسم الذي نقل الى النهار نص اتفاق القاهرة. بل هناك اسرار اقل اهمية واشد دلالة كما في الاصغاء الى ما تقوله ليلى التي تقرأ الغيب! لكن ثمة اسرارا اخرى كثيرة ستبقى طي القلب الى الابد، لأنها من طبيعة لا تحتمل الافشاء، ولأنها ليست من اسرار المهنة بل تكاد ان تكون من اسرار الآلهة. يعلم المؤلف ان سر المهنة، كما في الحِرف التقليدية، هو مجموعة التعاليم التي ينقلها المعلم (الاسطة) الى المتعلّم، وينقلها الوالد الى ابنه الذي يرث مهنته. وغسان تويني يخبرنا كل الاسرار التي اخذها عن والده، تلك التي يريد ان ينقلها الى ابنه وابنائه في المهنة، لكن سرّ المهنة ليبدو غير ذلك: انه اولا في تلك الملحمة التي صنعها نفر من الاشخاص، العدد القليل من الاشخاص الذين لا ينفك يذكرهم في صفحات الكتاب من جبران تويني المؤسّس الى لويس الحاج الاستاذ، الى ميشال ابو جودة، والى جملة الشباب فؤاد مطر وسمير عطاالله ورياض الريّس وامين معلوف وعلياء الصلح التي يقول بكل بساطة انها اكسبت بأحاديثها بعدا عربيا، الى جملة المحررين والصحافيين والطابعين والمراسلين والمصورين، الذين صنعوا "النهار" وصنعوا ازدهارها وانتشارها. ثم ان سرّ المهنة هو ايضا التصميم والمثابرة. العمل، المعمل، اي الانخراط في المهنة التي لم تستطع النيابة المبكرة او الوزارة، او الحزبية او الديبلوماسية، ان تبعد الصحافي عنها. وبشكل خاص، فإن سرّ المهنة، على عكس ما هو الامر في الحِرف التقليدية المحافظة، هو في التطور: "اشعر، كلما راجعت مقالاتي العتيقة، وقارنتها بما اكتب اليوم، ان ليس فقط احجام المقالات و"الانشاء" والتعابير تغيّرت... خفّت حدّة الشباب! وصار الصبر اطول باعاً من السأم بل اليأس. وصار بالنا اطول، حجم المقالات، وكذلك اللهجة البحثية بدل العصب المهاتر، اعترف..."(541). هذا الاعتراف هو سرّ المهنة، بل سرّ المهنة هو الاعتراف بالسذاجة: "سذاجتي السياسية المعهودة"(404) او حين يقول: "يعتريني شيء من الحزن عندما ادرك كم كانت واقعية الشيخ صباح اصدق انباء من كتب السذاجة التي يعبئ الصحافي بها دماغه وقلبه عندما يتحوّل الى ديبلوماسي يريد تغيير وجه المقدّر"!(490). لا بطولة ولا ادعاؤها. حين يتحدث عن دخوله السجن، يقول: "تظل بطلا الى ان يقفل عليك الدركي الباب الغليظ، فتسمع صريره خلفك" ومع ذلك فإن غسان تويني، بدخوله السجن وخروجه منه مرات كثيرة من الاربعينات الى السبعينات، لم يكن يصنع تاريخا مجيدا للصحافة مع اولئك الصحافيين الذين يسعى لكي لا ينسى واحدا منهم:جورج نقاش، كامل مروّة، نسيب مروّة، رياض طه، سعيد فريحه وسليم اللوزي والكثيرين غيرهم، بل كان يصنع معهم تاريخا آخر للبنان. تاريخ آخر للبنان لا نقرأه في الكتب المدرسية، لإننا نقرأ عن ابطال الاستقلال، ولكننا قلّما نقرأ عن اولئك الذين ناهضوا تحوّل رجال الدولة زعماء مدى الحياة. وقلّما نقرأ عن اولئك الذين في اللحظات الحرجة تحدوا انتهاك القانون وانتهاك الحرية. ان غسان تويني، في كتابه، يثبت لنا ان الصحافة اذا كانت ثمرة الحرية في لبنان، فإن الحرية في لبنان هي ثمرة الصحافة ايضا. من المؤكد ان غسان تويني قد عاش في الزمن المناسب: في ايام الاستقلال، ثم في لبنان الذي كان نبرة خاصة في محيطه العربي. لكنه بدا معاكسا دائما لهذا الزمن، ضد الاستقلال غير الناجز وضد الديموقراطية العرجاء، وضد استغلال التفرد باسم الدستور، وضد الهيمنة العربية في عزّ قوتها. انه كما يقول ميشال ابو جودة: "غسان تويني مع كل من هو ضد، وضد كل من هو مع". لكن هذه الجدليّة، اذا جاز التعبير، هي نفسها التي جعلت غسان تويني الشخص الاكثر معاصرة، وهو اذ يعتبر ان رسالة "النهار" هي نفسها: الاستقلال - الدستور - الحريات... الا انه يدرك اليوم التطور الذي احرزه العالم اليوم تجاه قضايا من نوع مختلف: البيئة والآثار وغير ذلك... وهو يدافع بالحرارة نفسها عن مسائل البيئة والحفاظ على الآثار... ويوجه صفحات الجريدة صوب هاتين الحيويتين... ويوجه "النهار" صوب الشباب الذين اراد دائما ان تكون "النهار" صوتهم. كتاب اراده غسان تويني مكاشفة واداة تربية. اراده عرضا لأفكاره وايمانه وفلسفته وخصوصا في الفصل/ الحديث الأخير، حيث نكتشف دارس الفلسفة وممارسها في بسطه افكار برغسون وهيغل، وقبلا ارسطو وديكارت ومعقبا عليها... نكتشف غسان تويني المؤمن الارثوذكسي ولكن على طريقته... في هذا الكتاب الذي يكتب اجزاء من تاريخ لبنان والعرب والعالم، نكتشف اجزاء من شخصية غسان تويني: اللبناني السوري العربي واليمني الاصل، الارثوذكسي البلمندي، الصحافي والديبلوماسي والسياسي والحزبي... وكل ذلك لا يغير من سرّ شخصيته بل يزيدها تنوعا، ان لم نقل سرّاً، كلما تكشفت وجوهها. لقد صنع غسان تويني الكتاب الذي كان يحلم بكتابته ابدا، كتاب ادب، هو بين السيرة المضادة والتاريخ المغاير. ان الصحافي يشعر بنوع من عدم الرضى، بل الاسى، لأن ما يكتبه (يُلقى في سلة المهملات او يصنف في ارشيف لا يراجعه احد) لكن غسان تويني استطاع ان يصنع، بعد اكتمال تجربة صرف عمره العملي كله فيها، الشيء الذي يرتفع فوق "اليومي" الذي هو آفة الصحافة. ان يكتب كتابه المصنوع من صحافة، ولكن الذي يرتفع الى نوع من الادب الذي يعلو فوق الاحداث والاخبار والوقائع على كونها مادته الأولى.