عرف أدبنا العربي أدب الفكاهة والسخرية منذ عصوره الأولى، ولكنه كان في بداياته حيث كانت قسوة الحياة وبساطتها في الجاهلية لا تسمح إلا بالقدر القليل منه، أو ربما كان يتخذ أشكالاً لم ترق إلى أن يصبح أدباً رفيعاً تتناقله الرواة مشافهة حتى توصله إلى عصر التدين. وجاء الإسلام وشغل الناس بالجهاد وبهذا الدين الجديد، واقتصر هذا الفن على نوا...
قراءة الكل
عرف أدبنا العربي أدب الفكاهة والسخرية منذ عصوره الأولى، ولكنه كان في بداياته حيث كانت قسوة الحياة وبساطتها في الجاهلية لا تسمح إلا بالقدر القليل منه، أو ربما كان يتخذ أشكالاً لم ترق إلى أن يصبح أدباً رفيعاً تتناقله الرواة مشافهة حتى توصله إلى عصر التدين. وجاء الإسلام وشغل الناس بالجهاد وبهذا الدين الجديد، واقتصر هذا الفن على نوادر وطرائف في هذا المجلس أو ذاك، وتطور هذا الفن فيما بعد، ليصبح فناً أدبياً قائماً بذاته.ولقد كان الطابع المميز في العصور العربية الأولى التي امتدت حتى نهاية القرن الخامس هو التثقيف والتعليم، بدا ذلك واضحاً في مؤلفات الجاحظ وابن المقفع وأبي حيان التوحيدي وأبي العلاء المعري، ولكن هذه الغاية كان تغلف بقالب فكاهي أو قصصي لطرد الملل، أو لتموه على السامع قليلاً، ولأن هذا الأسلوب يروق للسامع، وبخاصة أن قسماً كبيراً منها أُلِّف لمسؤولين في الدولة، أو كان بعضهم هو المتلقي أو السامع كما في كتاب أبي حيان التوحيدي الإمتاع والمؤانسة. ولذلك امتزجت الفكاهة والسخرية بزخم ثقافي علمي فيه غذاء للروح، وفيه نصح وتوجيه غير مباشر لهذا السلطان أو ذاك، ونقد لاذع للخصوم، وسخرية بهم.ولكن العصور المتأخرة التي تلت القرن الخامس شهدت تحولاً في التأليف، ليس في مجال كتب الفكاهة والسخرية فحسب، بل في جميع ألوان التأليف وصوره. ومالت السخرية حينها إلى الأسلوب البعيد عن الجزالة والرصانة، وأصبح الأسلوب شعبياً بسيطاً يرضي أذواق العامة وأنصاف المتعلمين. ولكن نقلة حقيقية، وإن كانت متعلقة بالشكل، تحت على يد عالم أندلسي، هو ابن عاصم، في كتابه الذي نقلب صفحاته "حدائق الأزاهر"، فقد نسق الكتاب ورتبه تبعاً لنظام معين دقيق، يغري القارئ، كما يغري الباحث، واستطاع هذا النظام أن يحقق أهداف المؤلف. ولا غرو فقد اشتهر الأندلسيون بذلك، وربما كان لامتزاج الثقافتين ولطبيعة البلاد أثر في ذلك. جاء في الصفحة الأولى من هذا الكتاب: حدائق الأزاهر في مستحسن الأجوبة والمضحكات والحكم والأمثال والنوادر للوزير الرئيس أبي بكر بن يحيى بن عاصم بن محمد ابن عاصم الأندلسي الغرناطي المتوفى سنة 829هـ. وفي المقدمة ما يشير أن ابن عاصم ألفه لأمير المسلمين أبي عبد الله بن أبي الحجاج بن أبي الوليد ابن نصر. وهو ابن السلطان يوسف أبو الحجاج الذي حكم ما بين (793هـ-797هـ) وتشي المقدمة أيضاً بالهدف الذي ألف الكتاب من أجله، فهو يذكر أنه ضمّن كتابه من طرف الأخبار، ورائف الأشعار، ومستحسن الجواب، ومضحكات المولدين والأعراب، ونوادر الحكم والأمثال والآداب، واختار منها ما يستحسن ويستطرف، ويستلمح ويستظرف من كل نادرة غريبة، أو نكتة أو حكاية بارعة، أو حكم نافعة، أو قطع شعر رائقة، أو مخاطبة عجيبة. وبين المؤلف الهدف من نوعيتها من قوله "مع ما يستفاد من ذلك من الوقوف على مناقب الملوك ومآثرها ومحامدها ومفاخرها، ومكارم أخلاقها وشيمها...". ويتجاوز المؤلف ذلك إلى "معرفة سنن من تقدم من الولاة والأمراء، والكتاب والشعراء والأئمة والخطباء..".ليتبين من ذلك كله أن ابن عاصم إنما قدم مادة منتقاة لأمير المؤمنين، فيها صور مختلفة ومتناقضة لقطاعات المجتمع بدءاً من الملوك وانتهاءً بالطبقات الدنيا. وقد جعل المؤلف كتابه في ست حدائق، مقسماً كل حديقة إلى أبواب مخصصاً كل حديقة للون. أما الهدف من إحياء هذا الكتاب وبعثه في طبقة محققة معاصرة فهو للكشف عن أثر هام من أدب الفكاهة والسخرية في أدبنا العربي وقد قام المحقق بتناول هذا الأثر بالتعريف والدراسة والتحليل، والكشف عن مصادره، وبيان منزلته بين الآثار المماثلة له.