كتاب« الجنوبي» للمؤلفة عبلة الرويني، سيرة ذاتية لأمل دنقل، الشاعر، والانسان، صاغتها الرويني حبيبته وزوجته وصديقة مشوار عمره بروح إبداعية ملؤها الشغف بهذا الشاعر. وتخبرنا منذ الصفحات الاولى أنها كانت تملك قلباً مستعداً لأن يبيع العالم كله من أجل هذا الشاعر الذي يملك بنطالاً واحداً أسود ممزقاً، وكانت قد تعرفت عليه إثر لقاء صحفي أج...
قراءة الكل
كتاب« الجنوبي» للمؤلفة عبلة الرويني، سيرة ذاتية لأمل دنقل، الشاعر، والانسان، صاغتها الرويني حبيبته وزوجته وصديقة مشوار عمره بروح إبداعية ملؤها الشغف بهذا الشاعر. وتخبرنا منذ الصفحات الاولى أنها كانت تملك قلباً مستعداً لأن يبيع العالم كله من أجل هذا الشاعر الذي يملك بنطالاً واحداً أسود ممزقاً، وكانت قد تعرفت عليه إثر لقاء صحفي أجرته معه لصالح جريدة الأخبار التي كانت تعمل بها. رتبت الرويني أوراق سيرتها وسيرته بكثير من الصبر والتشويق، رغم مرارة العمر الذي عاشه الشاعر. فتخبرنا ان اليتم والألم والمرارة والظلم علّموا أمل أن يصبح رجلاً صغيرا منذ طفولته في العاشرة حين فقد والده، وقد اشتهر بين رفاق الصبا بأنه الشخص الذي لايعرف الابتسامة، « كان أمل ينتمي للريح والاضطراب». ترك الدراسة بعد إتمام دراسته الثانوية، وبدأ رحلة البحث عن نفسه وحيداً وهو لم يتجاوز السابعة عشرة من عمره، علمه حصار الظالمين وظلم الأقربين والأهل الانتباه الشديد للناس، إلى حد الفزع، وعلمه أن يكره كل الظلم وكل القبح وكل الزيف.علّمه ضياع إرث أبيه وهو طفل على أيدي أعمامه أن يهب أحلامه للفقراء، وأن يخاصم الظلم ويخاصم العدل الذي لم يتحقق. كان أمل ينتمي الى الشوارع والازقة والطرقات حتى أنه ذكر يوماً ان تاريخ الارصفة هو تاريخه الشخصي. وفي وصفها وتحليلها لعلاقة أمل بالحرية تضع يدها على الجوهر النفسي لعلاقة الشاعر بهذا الفضاء« الحرية». فقد كانت الحرية الملمح الهام والمميز لشخصية أمل، وهي جزء أساسي من تكوينه الفكري والسلوكي، إنها مطلب وجودي وحياتي وقومي ملح، تطلبت منه نوعاً من الصراع الدائم والمستمر لتكسير كل عوائقها، وثوابتها ومسلماتها، فقد كسر أمل قانون الصعيد الصارم حين خرج على اللغة السائدة والتقاليد الموروثة والعرف العام، وخرج ايضاً على المسلمات الدينيةوايمان العوام، والمقدسات الثابتة، كان أمل دائماً انساناً حقيقياً في شرف سعيه الى الحرية وفي شرف تحقيقه لها، يكون دائماً نفسه، انه يعيش دائما ويسلك دائماً كما يريد هو ،ممتلئاً بحياته حتى الثمالة ، يحيا كل لحظة اضعافاً مضاعفة بطولها وعرضها وعمقها وارتفاعها. إنه نفسه دائماً وليس مايريده الآخرون ولهذا رفض كثيراً الانضمام الى جماعة أو اتجاه، أو حزب معين، مؤمناً بحريته الفكرية والسياسية والتي شكلت الأفكار الماركسية، والوجودية الكثير من خطوطها، إنه ضد المؤسسات من حيث هي مؤسسات ، وضد الأحزاب من حيث هي أحزاب ، فالأحزاب لديه كانت تعني دائماً اليقين والثابت وهو الذي ظل طوال حياته ضد اليقين، والثابت والأفكار والعقائد الساكنة. لقد فهم أمل دوره كشاعر، يتحقق كيانه الحقيقي داخل القصيدة من حيث هي قصيدة فنية تخدم قضايا المجتمع، يتحقق من خلالها فهمه للوطن والثورة والحرية. تدخل الرويني الى كل المناطق الغامضة في سيكولوجية الشاعر. فالصمت بينهما كان لغة خاصة، تفهم دلالتها وحين يكون هذا الصمت برهة زمنية ليكتب قصيدته كانت تبتعد قليلاً حتى لاتشوش عليه ولادة القصيدة. وحين تسرد المؤلفة ذلك فإنها تكتب نبض الشاعر ذاته، تحليلها الدقيق لما يعتمل في داخله ترجمة حقيقية لحالته. كأن هذا الكتاب كتبه أمل دنقل ولكن بيد عبلة الرويني، وأمتع تلك الحالات السردية، وصفها لعلاقة أمل بالناس والنقد بعد ذلك، فمفهوم الناس لديه يحتاج الى الكثير من التوقف فهو ملتحم شديد الالتصاق بهم، يحمل همومهم ويدرك أرق وأصغر تفصيلات حياتهم. مالديه هو للآخرين ،ومالدى الآخرين هو له. في بداية علاقته بصديقه جابر عصفور، ذهب يوماً لزيارته فرآه غارقاً وسط مجموعة من الكتب والأوراق. ضحك وقال له: لن تستطيع ان تصبح ناقداً حقيقياً جيداً بهذه الكتب، والأوراق، لابد من النزول الى الشارع ودخول التجربة، كي تمتلك الرؤية، ان الناس دائماً هم الرؤية. وأفردت الرويني العديد من الأوراق لمرض أمل دنقل فقد داهمه السرطان ولم يمض على زواجه من الرويني سوى تسعة أشهر، لتبدأ بعدها رحلة العذاب والصبر والاستدانة للعلاج. والانتقال من مشفى الى مشفى، ثم الاستقرار في الغرفة رقم« 8» في معهد السرطان بعد استفحال المرض. وهنا تكشف ورقة مهمة كتبها يوسف ادريس أن الشاعر أمضى أكثر من ثلاثة أشهر دون أن يتذكر وزير الثقافة أن أكبر شاعر في مصر مريض في معهد السرطان؟ أثناء قراءة هذه التفاصيل في صراع أمل دنقل مع الموت سيتذكر القارئ الرحلة ذاتها التي عاشها الراحل سعد الله ونوس في الصراع مع المرض ذاته. لقد تقاطع الاثنان في الارادة الحديدية الصلبة، وعشق الحياة حتى آخر لحظة. ويمكن أن نضيف لهما أيضاً الراحل ممدوح عدوان وبوعلي ياسين، كأن السرطان يختار ضحاياه عمداً من فئة الكبار إبداعاً وعبقرية، فاجأ صاحب قصيدة« تصالح» الطبيب حين أصر على كتابة وصيته بعد معرفته باقتراب الموت فراح يحدث جابر عصفور عن تفاصيل الوصية والجنازة مطالباً باتخاذ موقف عقلاني هادئ، وجابر مندهش أمام تلك الصلابة الخرافية من رجل يتحدث بهدوء عن جنازته القريبة. وتذكر المؤلفة كيف قرأ لها قصيدته خطاب غير تاريخي على قبر صلاح الدين، فردت: لاأستطيع أن أعجب، بقصيدة تدين عبد الناصر، قال: إنني لاأكره عبد الناصر، ولكن في تقديري دائماً أن المناخ الذي يعتقل كاتباً ومفكراً لايصح أن أنتمي إليه أو أدافع عنه، إن قضيتي ليست عبد الناصر حتى لو أحببته ولكن قضيتي دائماً هي الحرية» وكتب يوسف ادريس في وداعه:« لن أطلب منكم الوقوف حداداً، فنحن إذا وقفنا حداداً ،سيكون، الحداد على عصر طويل قادم، حداداً على العصر الذي سيمضي حتى يشب فيه رجال لهم شيم الرجال الذين كان يراهم أمل دنقل وكرم الرجال الذين كان يحلم بهم أمل دنقل، وشرف ونبل وانسانية وشجاعة ورقة الرجال الذين استشهد أمل دنقل وهو يراهم، هم البشر ويحلم برؤيتهم». مأساة أمل ببساطة أنه ظل قادراً على حمل البحر بينما البحر لم يستطع أن يحمله».