تعتدلُ الأسواقُ حين يمر .يتطلعُ الباعةُ إلى موازينهم جيداً . تعتدلُ الأسعارُ ويتجرأ الفقراءُ ، ويحترم الرجالُ نساءهم ، ويختبئ اللصوصُ والدجالون في أوكارهم ، وتزهر غيومُ العصافير على الشجر ، وتتدفق كتبُ الأمصار بأخطاء الولاة ، فيندفع رجالٌ على خيولهم أو أبلهم لا توقفهم الصحارى والسيول والذئاب والصعاليك والأمراء ، يقتحمون أبوابَ ا...
قراءة الكل
تعتدلُ الأسواقُ حين يمر .يتطلعُ الباعةُ إلى موازينهم جيداً . تعتدلُ الأسعارُ ويتجرأ الفقراءُ ، ويحترم الرجالُ نساءهم ، ويختبئ اللصوصُ والدجالون في أوكارهم ، وتزهر غيومُ العصافير على الشجر ، وتتدفق كتبُ الأمصار بأخطاء الولاة ، فيندفع رجالٌ على خيولهم أو أبلهم لا توقفهم الصحارى والسيول والذئاب والصعاليك والأمراء ، يقتحمون أبوابَ الإمارات العالية ، وينزعون سياطَ الحراس ويحررون الخدمَ من الأحباس ، ويسحبون الولاة للمحاكم والأسواق ، ويعرضونهم لصفعات الناس ، وكلماتهم القاسية . .يقحمون رؤوسهم في خزائنهم ، يدققون في الأرقام والمعادن النفسية ، والرخيصة ، يأخذون الكثير وينثرونه على المساكين ، ويتطلع أولئك الفقراء في أزقتهم المعتمة لهؤلاء البدو الغرباء ذوي الثياب الرثة ، يحولون النقدَ الثمين مثل مطر مضيء رخيص ينهمرُ على العشش . .يرون أبوابَ الولاة الثمينة تــُهدمُ وتنفتحُ دارُ الإمارة للمتسولين والنساء والمجلودين في الحقول والمسروقين في أهراء القمح ، وتتكاثر الحشودُ على الولاة . .حين يظهر عمر بدرته في الطرقات والأسواق والحارات ، يختفي المتسولون وباعةُ الغش ، وتمشي النساء باحترام ، وترتاح حيواناتُ الحمل من صناديق ثقيلة وأحمال متعبة ، ويوقف المتحدثون خطبهم الطويلة عن الفضيلة ، ويتجه الرجالُ للحقول ويتركون مجالس الثرثرة . .ويبعث الحطابون والمزارعون والنساء والعراةُ من وراء الصحارى بخطاباتهم لأمير المؤمنين ينتقدونه على عدم عنايته بهم ، ويتطلع بعضُ الصحابة في الرسائل بغضب ، في حين يدقق فيها عمر ، ويسألُ ، ويكتبُ ، ويرسلُ رجالاً مصنوعين من عظام الفضيلة والجرأة السميكة ، يقتحمون مخادع الولاة النائمين ويجرجرونهم عن المحظيات ، ويعرضونهم لسياط العامة ، ويستبدلونهم برجالٍ آخرين من التراب ، ويحملون خزائنهم ويلقونها في بيت المال ، حيث حشدٌ من العبيد والخدم السابقين ، حراساً غلاظاً على كل درهم . .يكتبُ عمر ، ويرسلُ ، وينزلُ إلى البرية والأسواق ، يترقب خطابات الجيوش ، يفكرُ في كل القطاعات كيف تصطف ، كيف تتراجع ، كيف تعيش . . يعود لدار الحكم ، يجلسُ مع حشد الصحابة الذين يتعالى كلامهم ، يشيرون إليه في كل الجهات ، عن السوق ، عن الغناء المتصاعد في الليالي ، عن الشعر القبيح ، عن أخطاء حكام الأمصار ، عن فقراء حرب الردة المتكاثرين والضحايا والقبائل الجائعة في الصحارى . .عمر يصغي بانتباه وكأن كل كلمة تخصه ، وكل فقير عين تحدقُ فيه ، يسأل أكثر ويطلب الفتاوى من كلِ فم ، ويتعبُ ويشعر بهذا الجوع العميق الذي يأكلُ جسمَه ، وهذا النعاس الذي يتسلطُ عليه ، ولكنه يهزُ رأسَهُ مراراً ويصحو بشدة أكبر ، ويخشى لكن الكلام لم يفته ، والنومُ لم يغلبهُ والجوع لم يهدْهُ . .