الحمدُ لله الواحِدِ الأحَد، الفرْد الصَّمد، الذي لم يلدْ ولم يولدْ، ولم يكن له كُفُوًا أحد. والصلاة والسلام على سيِّد الأولين والآخِرين، وعلى آله وصحْبه أجمعين. أما بعد:فإنَّ العالَم اليوم - على الرغمِ مِن سَعة رُقعته، وكَثرة دُوله، وتضخُّم سكَّانه، وبسببِ تقدُّمه المادي التقني - قد أصْبح وكأنَّه يعيش في جزيرةٍ واحدة، حيث سُهولة...
قراءة الكل
الحمدُ لله الواحِدِ الأحَد، الفرْد الصَّمد، الذي لم يلدْ ولم يولدْ، ولم يكن له كُفُوًا أحد. والصلاة والسلام على سيِّد الأولين والآخِرين، وعلى آله وصحْبه أجمعين. أما بعد:فإنَّ العالَم اليوم - على الرغمِ مِن سَعة رُقعته، وكَثرة دُوله، وتضخُّم سكَّانه، وبسببِ تقدُّمه المادي التقني - قد أصْبح وكأنَّه يعيش في جزيرةٍ واحدة، حيث سُهولة الاتِّصال والانتقال، وتشابُك المصالِح والمنافِع، واختلاط الثقافات وتزاوجها، حتى ذابتِ الأمم الصغيرةُ في الكُبرى، وتلاشتْ حضاراتٌ وسادت أخرى. وصنفت - مِن ثَم - دول العالم وَفْقَ ذلك المقياس المادي التقني، فهناك العالَم الأوَّل، والعالَم الثاني، وأخيرًا العالَم الثالث. وأصبحتْ بموجب هذا التصنيف - دول العالم العربي والإِسلامي كافَّة في قائمة العالَم الثالث! وقد أخذتِ الأمة المسلمة بهذا التصنيف وبتلك القِسمة راضيةً أو مكرهة، وشعرتْ بأنَّها طُويلب عِلم صغير أمامَ تلك الأمم (الراقية المعلِّمة)، تسعَى جاهدةً لخطابة ودِّها، واسترضائها، وتقمُّص شخصيتها. وهو وضعٌ مريرٌ - والاعتراف به أدْهى وأمرّ - ولكن لا مناصَ مِن إنكاره، وبهذا صدقتْ نبوَّة محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - حينما أخبر عمَّا سيؤول إليه حالُ هذه الأمة، حيث قال: ((يُوشِك أن تداعَى عليكم الأُمم مِن كلِّ أُفق، كما تداعَى الأكَلَةُ إلى قصعتها، قيل: يا رسول الله، أمِن قِلَّة بنا يومئذ؟ قال: أنتم يومئذٍ كثير، ولكن تكونون غثاءً كغثاء السيل، ينتزع المهابة مِن قلوب عدوِّكم، ويجعل في قلوبكم الوهن، قيل: وما الوهن؟ قال: حبُّ الدُّنيا وكراهيةُ الموت))[1]. نعم، إنَّ هذا الأمر يستدعي الاهتمامَ، ويسترعي الانتباه، ويتطلَّب البحثَ والدِّراسة من لَدُن رجال العِلم والرأي والحَل والعَقد. وإنَّ مما تجدُر دراسته - في خضمِّ هذه الأمواج المتلاطمة - موضوعَ العلائق الثقافية بيْن المسلمين وغيرهم، فإنَّه موضوعٌ جليلُ الخَطر، عظيم الفائدة، يرسم الحدودَ المشروعة، ويحدِّد الجسورَ الممدودة بيننا وبينهم. وتتأكَّد أهميةُ مثل هذه الدراسة إذا ما نظَرْنا فيما يُقدِّمه الباحثون والدارسون مِن أطروحات ونظريات وآراء، في مسائل العلاقة الثقافيَّة. إذ لا تكاد تخْلو مطبوعة، أو ندوة، أو لِقاء فِكري من عرضِ هذه القضية وإثارة مشكلاتها، وإبداء الآراء المختلِفة، بل والمتناقِضة أحيانًا. وجُلُّ هذه الأطروحات منحرِف عن سواء السبيل، بل انظر إلى واقع حياة المسلمين في علاقاتها الثقافية الدولية، ماذا سترَى؟ إنَّه التخبُّط في الظلام، والركض وراءَ السراب، والارتماء في الأحضان. حقًّّا إنَّه موضوع جدُّ كبيرٍ وخطير! ونظرًا لكبره، ولكونه يحتلُّ مساحةً واسعةً وعريضة في جانبِ العلاقة؛ لذلك قصرتُ بحثي هنا على تأصيلِ الموضوع وتحديده مِن ناحية الشَّرْع. فجاء بهذا العنوان:"الثقافة والعالَم الآخَر، الأصول والضوابط - دراسة تأصيليَّة". ولعلَّ في تحديد الأصولِ والضوابط الشرعيَّة في العلاقات الثقافيَّة كفايةً لرسم خريطة العلاقة، ووضع العلامات اللازمة فيها، لمن دَعتْه الحاجةُ إلى وضْع رِجله عليها. وأسال اللهَ الإِعانة والتسديد، كما أسأله - تعالى - أن يجعلَ مِن هذا البحث لَبِنةً علمية تُضَمُّ إلى لبنات مشروع التصحيح والتقويم لكيان الأمَّة الثقافي الذي ناله - ولعديدٍ من العوامل - التصدُّعُ، بل الانهيار في كثيرٍ من جوانبه، حتى يستوي على سوقه، وعندَ ذاك يعود للأمَّة تميزها واستقلالها، وتحتفظ بشخصيتها وهُويَّتها، وما ذلك على الله بعزيز. وقد جاء هذا البحث في: تمهيدٍ، وفصلين، وخاتمة.أما التمهيد فقد عرضتُ فيه - بإيجاز-:1- التعريف بأهمِّ مصطلحات البحْث.2- تميُّز الأمَّة المسلمة. وأما الفصل الأوَّل: فكان عن أصولِ العَلاقة الثقافيَّة.وأما الفصل الثاني: فعن ضوابطِ العلاقة.وأمَّا الخاتمة: فذكرتُ فيها نتيجةَ البحث. والله وحْدَه وليُّ التوفيق.