إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. اللهم إنا نعوذ بك من فتنة القول كما نعوذ بك من فتنة العمل ونعوذ بك من التكلف لا لما نحسن كما نعوذ بك من العجب بما نحسن ونعوذ بك من السلاطة ...
قراءة الكل
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. اللهم إنا نعوذ بك من فتنة القول كما نعوذ بك من فتنة العمل ونعوذ بك من التكلف لا لما نحسن كما نعوذ بك من العجب بما نحسن ونعوذ بك من السلاطة والهذر كما نعوذ بك من العي والحصر. أما بعد:فإن العلاقات بين الناس من أكثر الأمور دقة ورهافة، ومن أصعبها تصورًا واستيعابًا، بله التطبيق والتنفيذ، ذلك لأن حقوق الناس مبنية على المشاحة، كما قال الحق تعالى: ﴿ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ ﴾ [سورة النساء: 128]، قال الإمام ابن عطية صاحب المحرر الوجيز قي التفسير "الشح: الضبط على المعتقدات والإرادات والهمم والأموال ونحو ذلك فما أفرط منها ففيه بعض المذمة[1]. وسواء أكانت هذه العلاقات فكرية عقدية، أم اجتماعية أم سياسية، أم مالية أم غير ذلك، فالمشاحة موجودة والذي يهمنا في هذا البحث هو المجال الفكري العقدي العلمي، وهو أشد المجالات والعلاقات على النفوس دون شك، ناهيك عن الاختلاف فيها. فلك أن تتصور طبيعة العلاقة الفكرية بين الناس إذا حصل بينهم خلاف فيها، حيث تبدأ من الخلاف إلى النزاع إلى الشقاق إلى العداوة والبغضاء وربما إلى الاقتتال. وذلك كله يجرى وفق سنن إلهية لا تتغير. ﴿ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا ﴾ [سورة فاطر، الآية: 143].فالخلاف ذاته سنة كونية اقتضتها الحكمة الإلهية، قال الله - عز وجل-: ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ﴾ [سورة هود، الآيتان: 118 - 119]. وفي الأثر: "لا يزال الناس بخير ما تباينوا، فإذا تساووا هلكوا"[2]. وهو اختلاف شامل لكل جانب الإنسان والحياة، بدءًا من الاختلاف في اللغات والألوان كما قال الله: ﴿ وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ﴾ [سورة الروم، الآية: 22]، ومرورًا بالأخلاق والطبائع كما في الحديث: "إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم..."[3]، وانتهاء بالعقول والفهوم. ثم جاءت المنح والمواهب الربانية من الإيمان والتقوى والرزق ونحو ذلك وفق الأقدار الأزلية المترافقة مع ناموس الاختلاف. ثم ما يترتب على هذه المختلفات من التباين والوحشة والمنازعة والاقتتال هو أيضًا سنة كونية. قال سبحانه: ﴿ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ ﴾ [سورة البقرة، الآية: 251]. نعم ذلك حكم الله القدري وليس بالضرورة أن يكون ذلك كله متفقا مع حكم الله الشرعي، بل إن كثيرًا من ألوان الاختلاف وما يترتب عليه لا يرضاه الله، ويكون الإنسان مسؤولاً عنه. لذلك فإن الحاجة شديدة إلى معرفة ضوابط التعامل مع المخالف. والتعامل بحاجة أيضًا إلى الفهم والفقه، كي يحقق هذا التعامل ثمرته، ويؤتي أكله. وبذلك تظهر أهمية هذا الموضوع "فقه التعامل مع المخالف" وما قصدت بلفظة "الفقه" المعنى الاصطلاحي المعروف بقدر ما قصدت المعنى اللغوي لها. ومما شجعني - لا بل اضطرني - إلى الكتابة في هذا الموضوع ما يأتي:أولاً: أنني لم أجد دراسة علمية متخصصة بهذا الموضوع، مع شدة الحاجة إليها. صحيح أن ثمة دراسات طرقت جوانب منه، مثل:أ- بيان منهج أهل السنة والجماعة في النقد والتقويم للرجال والفرق والطوائف ونحوهم، وقد ظهر في هذا عدد من الكتيبات والرسائل الصغيرة. ب- التأكيد على أهمية الرد على المخالف وأنه من أصول الإسلام، وفي هذا مؤلفات قليلة. جـ- الدعوة إلى فهم حقيقة الخلاف بين المسلمين، وأن ذلك سبيل إلى الوفاق والاتفاق، وظهر في هذا عدد من الكتيبات والرسائل المختصرة. د- بيان أسباب الخلاف الفقهي بين العلماء. وفي هذا جملة من المؤلفات. هـ- الدعوة إلى منهج علمي في التفكير. وقد ظهر في هذا عدد من المؤلفات أيضًا. ولكن هذه الدراسات وشبهها مع أهميتها وقيمتها العلمية وشدة الحاجة إليها لا تفي بموضوع البحث، وهو التعامل مع المخالف حقيقته، وأهدافه وأسسه وضوابطه. ثانيا أنه يلاحظ - وبشكل ظاهر- أن التعامل مع المخالف يجري وفق مناهج متباينة ومضطربة:أ- فهناك المنهج المتساهل[4] الذي لا يقيم للخلاف وزنًا يُذكر. • فيتعامل مع الكافر والملحد والباطني تعامله مع المسلم. • أو يتعامل مع أهل البدعة والخرافة تعامله مع أهل السنة والجماعة. • أو يتعامل مع أهل الفسوق والفجور تعامله مع أهل العدالة والاستقامة. • أو يتعامل مع المتعالمين وأدعياء العلم تعامله مع أهل العلم والفضل، فلا ميزان عنده ألبته، وذلك راجع إلى جملة من الأسباب منها ضعف الإيمان، وبخاصة ما يتعلق بالولاء والبراء، ومنها عدم العناية بالعلم الشرعي. ب- وهناك المهج المتشدد[5] الذي لا يرتقي الخلاف مطلقا ولا يعتبره ويضيق به ذرعًا ويرى أنه شر محض.• فيشتد ويحتد على المخالف أيًّا كان، سواء أكان مسلما أم كير مسلم، وسواء أكان سنيًّا أم بدعيًّا، وسواء أكان برًّا أم فاجرًا، وسواء أكان عالمًا أم جاهلاً. • لا بل تزداد حدته وعنفه على علماء المسلمين وصالحيهـم لأدنى خلاف، بل يطير فرحًا إذا وجد مثل هدا الخلاف. • وربما كان جل اهتمامه بالخلاف الفرعي الاجتهادي، معتبرًا إياه قضية القضايا، ومتناسبًا الخلاف في القضايا الكبرى. • ثم إن تعامله - القائم على العنف والخشونة والغلظة وسوء الظن - يفتقر في آداب البحث والمناظرة، وآداب الحوار، بل قل: آداب العالم والمتعلم التي تزين المجالس العلمية، والحوارات الفكرية. وقد حاولت عرض الموضوع وفق منهج علمي عصري قائم على المناقشة والتحليل والاستنباط، يخاطب أهل التخصصات الشرعية، وأهل الاهتمامات بالفكر الإسلامي بصفة عامة متوخيًّا سهولة العبارة مع الاختصار غير المخل في جملة البحث. وأكثرت من الاستشهاد بالنصوص الشرعية وكلام أهل العلم في جل القضايا المطروحة، لأنها منطلق البناء وأساسه، واستأنست في مسائل الترجيح بآراء أهل التحقيق والتدقيق المشهورين كابن عبدالبر والنووي وابن تيمية وابن القيم وابن حجر ونحوهم، مع تخريج هذه النصوص والنقول وإسنادها إلى مصادرها وبخاصة، الأحاديث النبوية فقد خرجتها، فما كان منها في الصحيحين أو في أحدهما اكتفيت به لكونهما محلا للرضا والقبول من لدن عامة طلبة العلم. وما كان في غيرهما فقد خرجته من أكثر مصادره مع محاولة الحكم عليه صحة وضعفا من قبل أهل الاختصاص. وقد اشتملت خطة البحث على أربعة مباحث وخاتمة:المبحث الأول: مقدمات في التعريف بمصطلحات البحث، وأنواع الخلاف والمخالفين.المبحث الثاني: أهداف التعامل مع المخالف وأسسه.المبحث الثالث: الموقف العام من الخلاف والمخالفين.المباحث الرابع: الضوابط المنهجية للحوار الفكري. وتحت بعض هذه المباحث مطالب. أما الخاتمة: فقد أجملت فيها العناصر المهمة، وبعض التوصيات. ولا أدعي أنني جئت بمبتكرات جديدة قي هذا البحث، ولكنه الجمعٍ والترتيب، وهما من جملة مراتب التأليف فلعله يكون مفتاحًا لدراسات أكثر عمقًا وأوسع استيعابًا وعسى أن ينفع به طالبًا أو أن يرد به شاردًا أو يقرب به شاحطًا. ﴿ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ﴾ [سورة هو الآية: 88].