الحمد لله رب العالمين، القائل في محكم التنزيل: ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ﴾[1]، والصلاة والسلام على النبي المصطفى. أما بعد:فإن لكل أمة حضارة متميزة ولو من بعض الوجوه تعبر عن شخصية الأمة وتكشف عن حقيقتها وفلسفتها، ولكل حضارة بناة. وحضارة المسلمين لها تميزها وخصائصها، الت...
قراءة الكل
الحمد لله رب العالمين، القائل في محكم التنزيل: ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ﴾[1]، والصلاة والسلام على النبي المصطفى. أما بعد:فإن لكل أمة حضارة متميزة ولو من بعض الوجوه تعبر عن شخصية الأمة وتكشف عن حقيقتها وفلسفتها، ولكل حضارة بناة. وحضارة المسلمين لها تميزها وخصائصها، التي تنأى بها عن مستوى الحضارات الإنسانية الأخرى، وتسمو إلى عنان السماء. كما أن لهذه الحضارة بناة ذوي كفايات عالية، وعقول ناضجة، بذلوا- بل نذروا- أنفسهم وحياتهم للبناء والعمل. بيد أن الحضارة- أي حضارة- ذات وجوه وجوانب متعددة، أبرزها:• الجانب الفكري والعلمي.• الجانب الاجتماعي والأخلاقي.• الجانب المادي. وإن من الإنصاف أن يشاد بها جميعًا عند الحديث عن الحضارة، وأن لا يهمل منها شيء، لأن أساس قيامها كان عليها مجتمعة. أما إهمال بعض تلك الجوانب أو تناسيها فإنه خلاف الواقع. والحضارة الإسلامية- ذات المقومات المتينة- قد توافرت فيها تلك الجوانب كلها، فجمعت الدين والدنيا، أو مصالح الدنيا والآخرة. فكان العلم الشرعي لحمتها وسداها، وكان سائقها وقائدها، كما كان علماء الشريعة ربابينها وروادها - والرائد لا يكذب أهله -. لأنهم بحق هم أهل النفوذ والتمكين، والحل والعقد في كل القضايا الشرعية للأمة. وإليهم المرجعية في كل المهمات والملمات. فلا غرو أن يشاد بفضلهم وينوه عن جهودهم الحضارية بل حقهم التصدير بين البناة كلهم. وقد كتبت عشرات الكتب والأبحاث والرسائل في عصرنا هذا عن حضارة الإسلام، وشارك في هذه الكتابات مسلمون ومستشرقون، في تخصصات مختلفة. ولكنها في جملتها وعلى رغم اختلاف مناهجها وأطروحاتها لا تكاد تعرف شيئا اسمه: (العلم الشرعي)، أو (علماء الشريعة)، ولا مكانة هذا العلم من الحضارة، أو مدى تأثير أهله فيها. وظهرت لنا هذه الحضارة - أو أُظهرت - بمظهر شاحب وصورة قاتمة، تتمثل في الجانب التجريبي والفلسفي، أو قل: الجانب المادي والعقلي، ليس إلا. ففي الجانب المادي التجريبي تبرز علوم: الطب والفلك والرياضيات ونحوها. ويبرز بإزائها أمثال:• محمد بن زكريا الرازي (توفي حوالي 313هـ).• خلف بن عباس الزهراوي الأندلسي (ت427هـ).• الحسين بن عبدالله بن سينا (ت 428 هـ).في الطب.ومن أمثال:• علي بن عبدالرحمن بن يونس المصري (ت 399 هـ).• محمد بن أحمد البيروني (ت 440هـ).• نصير الدين الطوسي (ت 672هـ).في علم الفلك. ومن أمثال:• محمد بن موسى الخوارزمي (حوالي 233هـ).• ثابت بن قرة الحراني الصابئي (ت 288هـ).في علم الرياضيات. أما الجانب الفلسفي فثمة شخصيات بارزة كثيرة، يأتي في مقدمتهم:• يعقوب بن إسحاق الكندي (ت حوالي 260 هـ).• أبو نصر محمد بن محمد الفارابي (ت 339 هـ) الذي يعد أكبر فلاسفة المسلمين. هذان إلى جانب كثير من الأسماء السابقة مثل:ابن سينا، والرازي، والطوسي. وقد قدم أولئك - وأمثالهم - جهوداً ضخمة دون شك في مجالاتهم وكان للجانب المادي أو التجريبي أثر عظيم في تقدم حضاري المسلمين اعترف به الأوربيون، بل مازالوا يعولون على كثير من نظرياته ونتائجه. فلما كان الأمر كذلك - من إبراز للعلوم التجريبية والعقلية البحتة مع تجاهل للعلوم الإسلامية (الشرعية)، ولأهلها وآثارهم الجليلة التي هي أضعاف أضعاف جهود أولئك، بل لو قيل إن نسبة جهودهم إلى جهود علماء الشريعة قد لا يتجاوز عشرة في المائة لما كان في ذلك مبالغة. فلهذا رأيت أن من الأهمية القصوى الإسهام في سد تلك الفجوة، وتكملة ذلك النقص. مؤملا أن تكون هذه المشاركة منطلقاً للباحثين، ومشحذاً لذوي العزائم والهمم العالية. وكان نصب عيني وأنا أكتب هذه الصفحات جملة من الأهداف طمعت في تحقيقها أو الوصول إليهـا، من أهمها:1- تعميق مفهوم الحضارة ذي الطابع الشمولي المتكامل.2- التنويه بالحضارة الإسلامية بخصائصها وسماتها المميزة لها عن غيرها.3- الإشادة بجهود علماء الشريعة ودورهم الفاعل في البناء الحضاري. وهذا بحد ذاته مطلب شريف، لما فيه من الفوائد، مثل:أ- "معرفة مناقبهم وأحوالهم، فنتأدب بآدابهم ونقتبس من محاسن آثارهم". ب- "أنهم أئمتنا وأسلافنا كالوالدين لنا، وأجدى علينا في مصالح آخرتنا... وأنصح لنا فيما هو أعود علينا، فيقبح علينا أن نجهلهم وأن نهمل معرفتهم". جـ- "بيان مصنفاتهم، ومالها من الجلالة"[2]. منهج البحث:بعون الله تعالى استعنت بأكثر من منهج من مناهج البحث المتعارف عليها. ومن أهمها:أولاً: المنهج التاريخي (الاستردادي):وذلك بالرجوع إلى كتب التاريخ والسير والتراجم وعلم الرجال ونحوها وأخذ النماذج والأمثلة المناسبة بعد فحصها والتأكد من صحتها، ثم توظيفها بما يخدم البحث. ثانيًا: المنهج الاستقرائي:فقد قمت بمطالعة مئات الكتب والمراجع من المطبوعات المنتشرة في شتى الفنون والعلوم النظرية، وتتبعت آثار العلم الشرعي وعلماء الشريعة في بناء الحضارة الإسلامية، ودونت ما يصلح للاستدلال على صحة الدعوى والحكم، أو التأكيد على ذلك. ثالثاً: المنهج الاستنباطي:الذي كان ما منه بد عند دراسة القضايا الفكرية، وهي كثيرة في هذا البحث، بالنظر إلى طبيعة الموضوع. رابعًا: النقد التحليلي:متى كانت الحاجة إليه قائمة، وذلك في كثير من قضايا البحث وجزئياته. وفي سياق الحديث عن المنهج لا تفوت الإشارة والتنبيه إلى هذه الأمور:1- نظرًا إلى أن البحث خاص بعلماء الشريعة فإن الأمثلة والنماذج التي ذكرت في البحث على رغم كثرتَها لم تخرج عنهم إلى علماء آخرين، وقد حاولت تنويعها وتوزيعها جغرافياً بقدر الإمكان. 2- بينت مقصودي من عالم الشريعة وأنه من كان له باع في العلم الشرعي طويل، سواء كانت له مشاركات في علوم أخرى أم لا؟ وسواء أكانت شهرته في العلم الشرعي أم في غيره، و(ن كانت معظم الأمثلة التي أوردتها ممن اشتهر في العلم الشرعي. ومن غير الأحياء منهم. 3- قد يكون لبعض العلماء ممن ذكروا هنا وغيرهم أخطاء وزلات وهنات في أمور عديدة ومختلفة. وهذا أمر ليس بالغريب، إذ ليس من شرط المجتهد - فضلاً عن غيره - أن يكون معصوماً، فالعصمة من خصائص الأنبياء. ولذلك ربما كان منهم من انغمس في بدعة، أو في دنيا ولذة، أو بدرت منه هفوات وزلات. فمن ذا اللي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه لكن مع استبعاد من كان مغموصًا في دينه، أو كان داعية إلى ضلالة، وفقاً لما توصلت إليه بالتحري والاجتهاد. 4- أن ما ذكرته من أمثلة إن هي إلا شذرات يسيرة، ونقطة من بحر محيط مائج يؤخر بأسماء العلماء وأعمالهم وآثارهم ومآثرهم. ولا أذيع سراً إن قلت إنني كنت أحتار عند اختيار الأمثلة نظراً لكثرتها، في معظم المجالات. وتتألف خطة البحث إجمالاً من:• مدخل في:• تعريف الحضارة.• ومقوماتها.• والبعد الشمولي للإسلام.• ولمحة عن العلم الشرعي وعلماء الشريعة.• الفصل الأول: أثر العلماء في الجانب العقدي.• الفصل الثاني: أثر العلماء في الجانب العلمي.• الفصل الثالث: أثر العلماء في الجانب الاجتماعي.• الفصل الرابع: قضايا عامة. وتتعلق بثلاثة أمور:1- معالم منهج البحث العلمي لدى علماء الشريعة.2- العلماء والمثمعر.3- موقع المرأة العالمة في البناء الحضاري.4- خاتمة.ثم ألحقت بذلك فهارس تهم القارئ، وتفتح له كثيراً من مغاليق البحث. والله أسال أن يجعل فيه الفائدة في الأولى، وأن يكون ذخراً في الآخرة. إن ربي لسميع الدعاء.