أكثر من ألف وأربعمائة عام مضت على بعثة الإسلام، قدم خلالها للبشرية حضارة ذات غضارة ونضارة، سعد بها العالم ردحًا من الزمن؛ أعني: نصفَها الأول، الذي ما زالت تتحدَّث به الرُّكبان. ولكن ولأسباب متعدِّدة ضمرت هذه الحضارة، وخفتَ صوتُها، فظن بعض الناس أنها قد بادت وماتت، وأنها أصبحت تاريخًا لا يمكن أن يعيد نفسه ، واعتقدوا أنه لا بد من ...
قراءة الكل
أكثر من ألف وأربعمائة عام مضت على بعثة الإسلام، قدم خلالها للبشرية حضارة ذات غضارة ونضارة، سعد بها العالم ردحًا من الزمن؛ أعني: نصفَها الأول، الذي ما زالت تتحدَّث به الرُّكبان. ولكن ولأسباب متعدِّدة ضمرت هذه الحضارة، وخفتَ صوتُها، فظن بعض الناس أنها قد بادت وماتت، وأنها أصبحت تاريخًا لا يمكن أن يعيد نفسه ، واعتقدوا أنه لا بد من بديل، ولا بديل أولى من الحضارة الغربية التي ضربت بأطنابها شرقًا وغربًا، وملأت دنيا العالم بالفكر المادي الصاخب، إلا أن ذلك لم يكن سوى وهم وقع به ذلك البعض، أما الحقيقة فإن الإسلام لا يزال من الناحية النظرية غضًّا قويًّا، محتفظًا بمقوماته، قابلاً للتطبيق والتفاعل مع الواقع. ولعل أصدق دليل على ذلك "واقع الدولة السعودية" التي نشأَتْ في منتصف القرن الثاني عشر الهجري، واستمرت خلال القرنين الثالث عشر والرابع عشر، وما زالت إلى اليوم مُحتفظة بمبادئها ومقوِّماتها، مع أخْذِها بأسباب الحضارة والمدَنِيَّة المعاصرة. نقدِّم هذا الأُنْموذج للقارئ الكريم، لا لكونه يربِطُنا بالماضي فحَسْب، بل لأنَّه يستلهم أصوله ومبادئه من شريعة لا ينضب معينُها، ولا تَخْلَق على مرِّ القرون، شريعة "صيغت أحكامها - كما يقول ليوبولد فايس (محمد أسد) ت1992م - بحيث لا يتعارض أحدها مع الطبيعة الأصيلة للإنسان، والمَطالب الجوهريَّة للمجتمع البشري في كافَّة الأزمنة والعصور". وهو أنموذج يضيف إلى تلك الأصالة معاصَرةً وحدَاثة، تتفاعل مع الواقع تأثُّرًا وتأثيرًا، وتستفيد من كل مستحدث مفيد، من غير قبولٍ بالتغريب، أو اندماج بالآخر. إنه أنموذج يبذل ما أمكنه من وسائل الاجتهاد في تمثُّل الإسلام، وتجديد مبادئه وحضارته، مع عدم ادِّعاء العصمة أو الكمال، الذي لا يُضاف لغير النبَيِّين. بل إن التَّفاوُت بين النَّظرية والتطبيق أمر ما منه بُدٌّ، برغم واقعية دين الإسلام، القابلة للتطبيق. لكن الإنسان بطبعه خطَّاء، محدود القدرات، مهما تضافرت جهوده. وحسب هذا الأنموذج أن يقوم مستويًا على سوقه في عصر مشحون بالتحدِّيات والاضطرابات المادِّية والإلحادية والعلمانية و(اللا أدريَّة) والأهواء المسيطِرة. وأمَلُنا من قارئنا الكريم أن يبحث معنا وبِمَوضوعيَّة ونزاهة عن الحقِّ والحقيقة أينما كانا، مهما كثر المعارضون والمخالِفون؛ جاريًا على سُنَّة الحياة "الفأل الحسن"، وليس التشاؤم، أو النظرة التشاؤمية القائمة على العداء، وسوء الظنِّ تجاه الحضارة الإسلامية، كما صورها "صموئيل هنتنجتون" في كتابه "صراع الحضارات". ونحن حين نسوق هذا الأنموذج محاطًا وممزوجًا بالفقه والقانون، فذلك إشارة إلى أن نظام الحكم في الإسلام - كغيرِه من أنظمة الحكم الأخرى - له مضمونٌ، وله شكل. فأما المضمون فهو الأسُس والمبادئ والقِيَم والتشريعات التي يقوم عليها النظام، والتي تجدُها مبثوثة في ثنايا هذه الدِّراسة، وهذه ثابتة لا تتغيَّر، مهما تغيَّرَت أحوال الأمم وعاداتها. وأما الشكل فهو القوالب والآليات والوسائل التي يتكوَّن منها النِّظام، مثل: العلاقة بين السلطات، والأساليب الإدارية، وكيفية الشُّورى، ونحو هذا. وهذه قابلة للتطوير والتغيير بحسب المصالح ومقتضيات الأحوال. فدونك عزيزي القارئ هذه الدِّراسةَ المُختصرة عن نظام الحكم في الإسلام، وتطبيقه المعاصر في المملكة العربية السعوديَّة، التي نرجو أن تأخذ حيِّزًا من اهتمامك وعنايتك. والله الموفق