في هذا البحث الدائم تكمن حقيقة "الفلسفة الخالدة" التي أشرت إليها من قبل. فهي أشبه ما تكون بنظام شامل يتسع للفلاسفة في كل العصور، وتتنفس فيه آراؤهم، وتنبض أفكارهم وهمومهم. ولكنه كذلك نظام معاصر نستطيع نحن أيضاً أن نجد مكاننا فيه، ونحس بالمشكلات التي عذبت من قبلنا، ونجيب عليها كذلك إجابات مختلفة عن إجاباتهم. "فالشك" مثلاً ليس مسأل...
قراءة الكل
في هذا البحث الدائم تكمن حقيقة "الفلسفة الخالدة" التي أشرت إليها من قبل. فهي أشبه ما تكون بنظام شامل يتسع للفلاسفة في كل العصور، وتتنفس فيه آراؤهم، وتنبض أفكارهم وهمومهم. ولكنه كذلك نظام معاصر نستطيع نحن أيضاً أن نجد مكاننا فيه، ونحس بالمشكلات التي عذبت من قبلنا، ونجيب عليها كذلك إجابات مختلفة عن إجاباتهم. "فالشك" مثلاً ليس مسألة أثارت بعض الفلاسفة ومرت من زيتون الايلي إلي السفسطائين إلي ديكارت، بل هو مسألة تطرح نفسها علينا في زمننا الحاضر وفي موقفنا الراهن. وليس معنى هذا أننا لا ندخل "مدرسة الحكمة" أو "معبد الفلاسفة" إلا لنلتقي بأفكارهم الخالدة فحسب. بل لابد لنا كذلك أن نعرف حكمتهم وحماقاتهم، وهزائمهم وانتصاراتهم، وحقائقهم وسخافاتهم، وليس ما يمنع أيضاً من الأهتمام بالأمراض التي كانوا يشكون منها في المعدة أو الصدر، اهتمامنا بتفاصيل مذهبهم أو ظروف مجتمعهم وحياتهم.. ذلك لأن الفلسفة- هذا الجنون المعقول!- حاضرة دائماً في كل فليسوف، وليست حقائق الفلاسفة أو خرافتهم سوى ذكريات علي طريق واحد، مهما تعرج أو امتلأ بالسدود والمطبات، فهو يتحرك علي الدوام حركة تبدأ في كل لحظة ولا تنتهي. فليست الفلسفة في نهاية الأمر مجموعة من المذاهب والآراء التي تعبر عن نفسها بالأفكار المجردة، بل هي قبل ذلك ملحمة من تجارب الحكمة، تمتلئ فصولها بالسلب والإيجاب، والنجاح والفشل، والتقدم والتأخر، ويتصل فيها الماضي بالحاضر، ويلتقي المفكرون من حيث لا يعلمون، ليضعونا أمام المسئولية التي تحتم علينا في كل لحظة حاسمة من لحظات حياتنا أن نجرب تلك الحكمة، ونسير علي هذا الطريق، لنثري حياتنا، ونوسع آفاق شعورنا، ونكون نظرتنا الشاملة في العالم والإنسان، ونتمسك بالقيم التي نادي بها الفلاسفة ودفع حياته من أجلها.لذلك كانت الخطوة الأولي علي هذا الطريق هي إيقاظ السؤال الفلسفي في نفس القارئ من جديد، والرجوع به إلي الحالة الأولي للتفلسف، أي إلي الدهشة الأصلية التي جعلت أقدم الفلاسفة يسأل هذا السؤال السهل العسير: ما هو الوجود؟ وكانت لحظات الاندهاش أو العلو أو الشجاعة والتواضع أو الاحتجاج الخ التي تتحدث عنها الصفحات القادمة لحظات من فعل التفلسف نفسه، ومحطات علي هذا الطريق الطويل الشاق، وألوان من المواقف الحاسمة التي وقفها المفكرون، واستطاعت فيها الفلسفة أن تكون عوناً لهم علي مواجهة قدرهم أو أدت بهم علي العكس من ذلك إلي مأساة هذا القدر. ولهذا كله فإن هذا الكتاب لا يهدف إلي التعرض لتاريخ الفلسفة أو مذاهبها، بقدر ما يهدف إلي تمهيد الأرض الصالحة لفعل التفلسف نفسه، وتطهيرها من كل ما يعوقه من عقبات تنجم عن التزمت أو الكسل أو الإغراق في التفاصيل والجزئيات. إنه يريد أن يشرك القارئ في ذلك البحث الخالد عن المعرفة ويأخذ بيده إلي "مدرسة الحكمة" التي لا يحدها مكان ولا زمان، لعله أن يدخل في حوار مع أصحابها، ويذوق طعم المشكلات التي تعذب عقولهم أو تملأ عليهم وجدانهم، حتى يفوز من ذلك بزاد يعينه علي طريق الحياة، ويحيي فيه جذوة السؤال عن حقيقته وغايته ومعنى وجوده وحريته.