نبذة النيل والفرات:"العولمة globalization" هي أعلى الكلمات طنيناً وأوسعها انتشاراً في هذا العقد من الزمان. ذلك أنها تصف ظاهرة دمغت العالم بطابعها وصبغت الحقبة بصفتها، وغدت إطاراً مرجعياً لكل فكر جديد يريد أن يستوعب ما يجري من مستجدات متلاحقة لم تخطر ببال الأجيال السابقة، ولم ترد في مخزون الحكمة البشرية على امتداد تاريخها. من الص...
قراءة الكل
نبذة النيل والفرات:"العولمة globalization" هي أعلى الكلمات طنيناً وأوسعها انتشاراً في هذا العقد من الزمان. ذلك أنها تصف ظاهرة دمغت العالم بطابعها وصبغت الحقبة بصفتها، وغدت إطاراً مرجعياً لكل فكر جديد يريد أن يستوعب ما يجري من مستجدات متلاحقة لم تخطر ببال الأجيال السابقة، ولم ترد في مخزون الحكمة البشرية على امتداد تاريخها. من الصعب أن تجد تعريفاً جامعاً لظاهرة بلغت مبلغ العولمة من التعقيد والتشعب وتعدّد الأبعاد، وليس من قبيل المبالغة أن يقال أن العولمة تحتاج في الإحاطة بها إلى نظرية عابرة للتخصصات تتآزر فيها أفر بحثية عديدة كيما تحصر أقطارها ودينامياتها ومساراتها ومشكلاتها وملامحها الممكنة. وقد تعرف العولمة بأنها "عملية تتراجع فيها حثيثاً تلك الحدود التي تفصل بين الأفراد، وتلك التي تفصل بين المجتمعات، ومن شأن هذه العملية ان تغير من طبيعة التفاعل البشري في كثير من الأصعدة (الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية، والثقافية، والتكنولوجية... الخ)، وإن تغير من الطريقة التي بها ندرك الزمان والمكان، والتي نتصور بها العالم ونتصور أنفسنا". هذا وإن أغلب التعريفات الواردة للعولمة تتفق على خصاص أربع تميز هذه الظاهرة المتعددة: أولها تخلق شبكات وأنشطة اجتماعية جديدة (وتكاثر الشبكات والأنشطة القائمة) تقهر الحدود التقليدية: السياسية والاقتصادية والثقافية والجغرافية. مثال ذلك تلك القنوات الفضائية الإخبارية التي تخطت الحدود والقيود القديمة بفضل تصادم التجديدات التقنية وشبكات الاتصال والقرارات السياسية التي تسمح ببزوغ أنظمة اجتماعية جديدة لا تتقيد بالترتيبات التقليدية الضيقة الأفق.والخاصية الثانية تتجلى في اتساع العلاقات والأنشطة الاجتماعية والترابط والاعتماد المتبادل (التواقف Interdependency) تبسط الأسواق المالية ظلها على كوكب الأرض، وتجري التجارة الإلكترونية على مدار الساعة، وتنتصب المراكز التجارية العلامقة في جميع القارات مقدمة للمستهلكين بضائع من كل بقاع العالم، منها ما تمّ صنعه في بلدان مختلفة. وتتعدد المنظمات غير الحكومية والشركات التجارية والمنتديات الاجتماعية والرابطات العالمية والإقليمية: الأمم المتحدة، الاتحاد الأوروبي، رابطة جنوب شرق آسيا، منظمة الاتحاد الأفريقي، أطباء بلا حدود، مراسلون بلا حدود، منظمة العفو الدولية، المنتدى الاقتصادي العالمي، مكروسوفت، جنرال موتورز... الخ.والخاصية الثالثة للعولمة هي اشتداد، وتسارع وتيرة الأنشطة الاجتماعية والتعامل المتبادل. فالانترنت ينتقل المعلومات القصيرة في ثوان معدودات، والفضائيات تقدم للمشاهد صوراً حية للأحداث البعيدة. والوقائع الداخلية تشكلها وقائع خارجية والعكس بالعكس. تتسارع وتيرة كل شيء، وتنكمش المسافات بطريقة مذهلة. وهذا ينطبق على تأويل المقولة الشهيرة "العولمة تضغط الأمن والمكان". غير أن هذا التخلق والامتداد والتسارع الذي يَسِمُ الأنشطة والترابطات الاجتماعية لا يقوم على مستوى ماديّ موضوعي فحسب، بل إن عمليات العولمة تنسحب أيضاً على المستوى الذاتي للوعي الإنساني، مما ينلقنا إلى الخاصية الرابعة، والأهم للعولمة: وعي الناس بكل ذلك، وإدراكهم المتزايد لظاهر التربط الاجتماعي وانكماش المسافات وتراجع الحدود، مما يطبع فيهم إحساساً حاداً بأنهم أصبحوا جزءاً من كلٍّ عالمي، إحساساً تدعمه خبراتهم اليومية المستمرة بالترابط الكوكبي، فما يفتأ يغير من هويتهم الفردية والحميمية، ويؤثر من ثم تأثيراً مشهوداً على مسلكهم في العالم، وهذا ما يمكن أن يطلق عليه التاثير السيكولوجي للعولمة على الإنسان.حول هذه الزاوية "العولمة من زاوية سيكولوجية" ينطلق البحث في هذه الدراسة التي تتناول المنحى النفسي للعولمة وارتداداته على جميع الأسعدة الحياتية.