الدبلوماسية علم وفن وشخصية متميزة. فهي علم Science لأنها تتطلب المعرفة والدراسة والتخصص، لا يمكن أن يجيدها إلا من كان قد سبر العلوم الدبلوماسية وفهم مداركها، واستلهم قواعدها، ونال من مناهلها العلمية، وتعمق في أغوارها، واستوعب علومها التاريخية واللغوية والاجتماعية، وتحشم في ملبسها ومشربها ومأكلها، وامتهن مهنتها، وامتلك عدتها، وال...
قراءة الكل
الدبلوماسية علم وفن وشخصية متميزة. فهي علم Science لأنها تتطلب المعرفة والدراسة والتخصص، لا يمكن أن يجيدها إلا من كان قد سبر العلوم الدبلوماسية وفهم مداركها، واستلهم قواعدها، ونال من مناهلها العلمية، وتعمق في أغوارها، واستوعب علومها التاريخية واللغوية والاجتماعية، وتحشم في ملبسها ومشربها ومأكلها، وامتهن مهنتها، وامتلك عدتها، والتصق بها. وهي فن Art، كأي فن من الفنون الإنسانية، لا يمكن أن يمارسها إلا من يملك الموهبة، الحاذق النابه المتبصر، والمتفهم لأصولها، والقادر على ضبطها وتطويعها بالاتجاه الذي يخدم فكرته، والمجسم لفكرة من يمثله، والمعبر عنه بأكثر مما يملكه. فهو الممثل عن مرسله، بأكثر مما يملكه هذا المرسل. تجده وديعا هادئا يقابل الإساءة بالشهامة، ويكظم الغيظ بالابتسامة، وينتزع من عدوه أحلامه، ويظهر بخلاف ما يؤمن به، ليقنع الآخرين بحسن الطوية وقوة المنطق ونكران الذات. يحلل الكلمات والحركات ويفهم أن للعيون نظرات، وللقلوب صولات، وللكلام جولات، تليها جولات، وفي النفوس تختبئ حسرات. وقد يتحول إلى وحش شرس، سديد الإصابة، يفحم خصمه، ويطلق الطلقات القاتلة من فمه، ويفحم خصمه وينقض عليه، وإن كان لا يؤمن بما يقوله. فهو لا يعبر عن نفسه، بل يعبر عن مرسلة بحكمة وقدرة لا يملكها مرسله. لهذا قال الحكماء العرب القدماء، في قدرة الدبلوماسي، بأنه يجيل الحق بالباطل، ويجيل الباطل بالحق. فأين ما تضعه يعرف مكانه، وينتصب لموقعه. وبالكلمة الحاذقة والحجة المنطقية يحقق النصر لدولته ما لم تحققه الحروب، لا تؤثر فيه المؤثرات ولا المواقف المحرجة. يدرك كبائر الأمور وصغائرها. يعرف ما يقول وما يقصد بكل كلمة، حصيفاً حذراً مستغلاً الظروف والفرص، عارفا مكامن ضعف خصمه وقوته. والدبلوماسية شخصية Personality متميزة، لا يمكن ممارستها إلا من كان يتمتع بشخصيه دبلوماسية خاصة، سليم الجسم والحواس والمنظر والمظهر، قوي الفطنة، والإدراك، كيّس، ودود، حاذق، ماهر، متمكن من تحريك حواسه الجسمية جميعها في اتجاهات عدة في آن واحد. فهو ينظر في وقت واحد لجهة معينة، ويسمع لعدة جهات أخرى، ويتكلم، وينظر لحركات العيون ويوزع الابتسامات لممن ينظر إليه. أنيق في ملبسه، رشيق في جسمه، جميل في خلقته، حسن الصورة والإسم، تتلقفه القلوب وينساق إليه القوي الممتنع، وترخى له الكبائر. سلس الكلام غير متقطع، جميل الألفاظ، عارفا لغة من يتكلم معه، وابتسامة تجذب النفوس تبعث على الاطمئنان والأمان. ثائر في داخله، مبتسماً في مخارجه، أو فرحاً في جوارحه، غاضباً في تخاطبه.. ولما كانت الدبلوماسية، تقوم على ثلاث عناصر، علم وفن وشخصية، فإن الدول المتقدمة اهتمت بهذا العلم، وعملت على صقل الشخصيات المناسبة، واختارت من يصلح لهذا العلم من النابهين القادرين على الأداء الأمثل والأفضل. بل أن بعض الدول اختارت لهذه المهنة الأشخاص وهم في سن الطفولة، وقامت بتربتهم تربية خاصة من خلال المؤسسات العلمية المتخصصة.